بين الظهور والاختفاء (2)

الاستعداد للمحبة

بين الظهور والاختفاء (2)

نشر بجريدة الوطن الجمعة 12 / 2 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الآدمي الذي تمتلئ صفحة وجدانه بما أسلفناه من الاقتناعات، ويصل فيها إلى تلك المرحلة المبعدة في إجلال الثراء والأثرياء ـ بعيدٌ عليه أن يتخلى عن اقتناعاته أو عن الأسباب التي أوصلته إليها وعن نتائج وتوابع الوصول إليها، مهما علا في ضميره صوت المحبة للغير، اللهم إلاَّ أن يكون وليًّا أو قديسًا يخرج عن بحر العاديين، ومع ذلك فإن غاية ما يبلغه أن يكثر من أعمال البر أو الخير أو النفع العام، دون أن يهبط بمستوى معيشته أو يقلل ذلك من عنايته بماله وتنميته له وفق الوسائل والأساليب المألوفة في محيطه ولدى أمثاله .

لم تنجح الشيوعية، أو الاشتراكية المتطرفة، خلال تسيدها لأكثر من نصف قرن على شعوب كبيرة وبلاد واسعة ـ لم تنجح في إزالة سلطان المال وإزاحته عن عرشه الذي استقر فيه آلاف السنين.. سواء في جوهر الأنظمة أو في أذهان البشر وأرواحهم.. كما لم تنجح في إلغاء السلطات والمزايا والفروق.. الهائلة التي في ظلها حكم الحكام الشيوعيون أو الاشتراكيون شعوبهم . ذلك لأن مواهب البشر العامة وإن أمكن إخفاؤها أو تجاوزها لوقت ما، قصير أو طويل، خلال الترديد والترويج والتوكيد للمذهب وفلسفته ونظرياته في المبادئ، إلاَّ أن ذلك لم ينجح ولا يمكن أن ينجح في طمس هذا الواقع، ولا في علاج المتاعب الناجمة عن الفروق.. لأن الشعارات والوعود لا تلبث أن تسقط عند دخولها حيز التجربة والتطبيق !!

إن التبسيط الفكري الذي لم يعركه الزمن والتطبيق، يتجاهل تجاهلاً شديدًا ـ ربما دون أن يفطن ـ معالم السلوك العادي لدى الآدميين أفرادًا وجماعات.. وهو سلوك بطئ التطور، وليد ماضٍ طويل بالغ الطول، تركت كل حقبة مرت ـ تركت بصماتها عليه واكتتبت بنبضها في تكوينه وتكوين ما انتقل منه عبر الأجيال الماضية وإلى الأجيال الحاضرة، ومن غير المأمون تغيير ذلك كله دفعة واحدة أو على دفعات متقاربة ـ من آدميين محدودي العمر والعدد والخبرة.. ومهما كان حظهم من الذكاء والفهم والبصيرة والاستقامة والأمانة، ربما لأن ذات هذه المواهب والقدرات المتميزة ـ هي الدافع المُلِحّ لتميز أصحابها وإن اضطرتهم المبادئ المعلنة إلى مواراته في الخفاء !!!

نعود فنقول إن في أعماق الآدمي استعدادًا فطريًّا للمحبة، لكنه ليس الاستعداد الوحيد ولا الأقوى ولا الغالب في أغلب الأوقات ـ وليس من المأمول أن يصبح كذلك في المستقبـل، وإنما نأمل أن يفطن البشر إلى قيمته وقيمة الاعتياد عليه في جعـل حياتهم أكثر هدوءً واستقرارًا وتعاونًا وسلاسةً وبعدًا عن المخاطر أو المعاطب مما هي عليه الآن ومما تتعرض له في المستقبل الذي قد يكون قريبًا إذا استمر إغفال البشر لهذا الاستعداد الإنساني.

إن هذا الاستعداد للمحبة ليس وسيلة للدفاع عن حياة الفرد أو الجماعة، وإنما هو طريق أكيد لضمان السلام بين البشر، ولإتاحة فرص التفاهم وتبادل الخدمات والمعونات، ولجمع وتضافر المعارف والتجارب ولإسراع خطى التطور والتقدم وعلى نحو غير مسبوق، ولتمكين الجميع بغير تفريق بين الغنى والفقير والقوى والضعيف من الإحساس بالثقة والأمان الشاملين، ونسيان الخوف والقلق والحيرة وانعدام النصرة والإنصاف، وزوال خطة النظام العاجز في التوزيع المغرض والعدالة غير المتبصرة .

لقد عرف الأقدمون ذلك الاستعداد الفطري للمحبة وقدسوه ونسبوه اعتقادًا إلى السماء على أنه الدواء الإلهي الذي يداوى المجتمعات حين تستحكم فيها الشرور ويعجز البشر عن إصلاحها، فتوفد السماء نبيًّا أو رسولاً أو قديسًا يجمع أشتات الناس مرة أخرى مع الالتفات لصوت ذلك الاستعداد وإيثاره وتفضيله ـ فيتغلبون بذلك على الشرور التي نكبتهم ويستعيدون مسيرتهم في الحياة السليمة المليئة بالمحبة والمسالمة والثقة والأمان . وقد اعتقد الناس أن ذلك العلاج الإلهي يجئ على دورات كلما استشرى الشر بين الخلق، وأن كل دورة تسبقها إرهاصات وأمارات بمجيء ذلك العلاج تمهد له وتعد الأذهان والقلوب لمجيئه.. وكثيرًا ما ظنت جماعة أنها قد أوتيت تلك الإرهاصات والأمارات وأن الزمن قد دار دورته وجاء أوان وفادة المنقذ المبعوث وانقادت من ثم لمن قدم لها نفسه على أنه هو إياه وهمًا منه أو خُبْثًا.. وساقها ذلك إلى المزيد من الأذى والبلاء والبطش بها وقتل أو أسر جموعها بالحديد والنار !!

وخلط فطنة الآدميين بأحلامهم على ذلك النحو الفاجع، ليس مستغربًا ـ وهو لا يبطل فطنتهم إلى الاستعداد للمحبة القابع في أعماق كل آدمي لا يكذب إحساسه العميق بأن الاتجاه الفطري إلى خير الكل هو الأصل في الموجودات كلها، وأن الشر بأنواعه طارئ زائل مهما طال أمده ومهما أخطأ البشر في اختياراتهم وأحكامهم وأفكارهم ومصدقاتهم.. ويبدو أن ذلك كان الأساس الذي بنيت عليه الأخلاق العامة والخاصة والتزام الكل بها بغض النظر عن صوابهم وخطئهم في تحديد ما هو خير وما هو شر.. وهو تحديد ينبع مما كان قد توفر لهم من الاستنارة والإحاطة ببيئتهم ودنياهم.. وهذا التأصيل لقربه الشديد من الفطرة وطبيعة الآدمي، أولى بالتأييد من الأصول المختلفة التي ترد إليها قواعد الأخلاق المتداولة في زماننا، في الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس . وتلك الأصول ترد إلى أصول أخرى أسبق بلا آخر، مبناها تفسير المشاهدات الخارجية في التجارب والسلوك لدى الأفراد والجماعات في مكان ما في زمن ما ـ ملتزم بالموضوعية البحتة التي لا تتجاوز الطبيعة القابلة للمشاهدة بالحواس والآلات، وربما كان في ذلك الاستعداد لمحبة الغير ـ خيط ديني هو الذي صرف تلك الفلسفات والعلوم عن الالتفات الجاد إليه !

ومن أهم ما يعترض ذلك الميل إلى محبة الآخرين والإحسان إليهم ـ عزة النفس التي نشعر بامتيازها على سواها وحقها في الإكبار والترفع عن مستوى الغير أو الأغيار، مفترضين ذلك التميز أو متوهمين له، وهذا هو كبر أو تكبر الخاصة والذين يتمسحون بهم طمعًا أو غرورًا، وما يلابس ذلك ويلازمه من ترفع وانحياز للذات لخدمة الأغراض واتخاذ الخدم والأتباع والتعالي على الفقراء والضعفاء حتى من ذوى القرابة أو الجيرة . هذا الداء يكاد يكون متوطناً في ريف بلادنا، لم تفلح الهجرة ـ لمن هاجر، ولا الغنى ـ لمن حققه، في تخفيف غلوائه، فكان هذا وتراكماته سببًا في إخفاء الاستعداد للمحبة، هذا الاستعداد الذي تراجع أمام الاستعداد للتكبر والعجب والخيلاء والتيه بالذات والإحساس بعلو القدر والمنزلة والمكانة !!

في القرى والبلدان، يتحاشد الأقوياء بعضهم لبعضٍ ظهيرًا من آلاف السنين، ولكن تشتت الذين يعملون في حقولها يحول بينهم وبين تجمعٍ يشعرون فيه بقوة تجمعهم وخطورة شغبهم ـ إذا شغبوا ـ في أماكن أعمالهم . هذا وكل من الإذعان والاستكانة، أو التمرد والشغب، أمارة على نشاط الاستعداد للمحبة.. فهذا الاستعداد حاضر في النقيضيـن.. شأنه شأن الاعتزاز بالذات واحتقار الغير.. فهما ـ على تقابلهما ـ نابعان من نبع واحد أو إن شئت: من استعداد واحد !

زر الذهاب إلى الأعلى