بين الشعر والقانون.. السجون المفتوحة

السجون المفتوحة مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي

السجون المفتوحة – كما هو واضح من اسمها – هي سجون لا تستعين بأساليب التحفظ المادية للحيلولة بين نزلائها والهرب ولا تلجأ إلى وسائل القسر والإكراه لحملهم على الخضوع لنظامها والانتفاع من أسباب التأهيل المقررة، وإنما تعتمد على إقناعهم بأن الهرب في غير مصلحتهم وبأن أساليب التهذيب والتأهيل هي من أجل صالحهم، وتنمي لديهم بذلك الشعور بالمسئولية قبل المجتمع الصغير، أي مجتمع السجن، وإزاء المجتمع الكبير، وتخلق لديهم بالتالي ثقة في العلاقة بينهم وبين القائمين على إدارة المؤسسة العقابية، ثم تستعين بهذه العوامل لتوفير معاملة عقابية سليمة تقود إلى التأهيل.

ومن هذا التعريف، يبدو جلياً أن السمة المميزة للسجن المفتوح لا ترد فحسب إلى خصائص مادية، كزوال الأسوار والقضبان واختفاء الحراس المسلحين، ولكن طابعه الأساسي هو سيادة روح جديدة، قوامها التخلي عن أساليب الإكراه التي لا يقتضيها أمن المجتمع ولا تفيد في التأهيل وإنما تمثل رواسب قديمة متخلفة عن عداء الرأي العام للمسجونين واتجاه إلى إذلالهم، وتجتهد في تنمية جو من الثقة والتفاهم وتبصرة المحكوم عليهم بمصالحهم الحقيقية وتوجيههم إلى بذل جهود شخصية واعية يتحقق بها تأهيلهم.

ولذلك، يرى بعض الفقهاء أن هذه المؤسسات العقابية تمثل ميلاد عصر عقابي جديد تسود فيه هذه الروح الجديدة وتختفي تدريجياً الأساليب القديمة حيث لا تكون لها ضرورة ولا يثبت أن لها دوراً ملموساً في تحقيق أغراض العقوبة السالبة للحرية (د. محمود نجيب حسني، علم العقاب، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1973م، رقم 165، ص 192 و193).

وينعقد إجماع فقهاء القانون الجنائي المصري والعربي على أن بداية نشأة هذه المؤسسات لم تكن نتاج نظرية عقابية، وإنما هي وليدة ظروف كشفت عن الحاجة إليها، ثم اتضحت بعد ذلك مزاياها، فصارت محل تأييد من علماء العقاب: فقد ارتفع عقب الحرب العالمية الثانية عدد نزلاء السجون، وذلك لكثرة المحكوم عليهم لجرائم التعاون مع العدو وللجرائم المرتبطة بظروف الحرب، فضاقت عنهم أبنية السجون، فأنشئت معسكرات لإيوائهم. وقد كشفت تجربة هذه المعسكرات عن أن عدداً من المحكوم عليهم لا يخشى هربهم، ثم إن حياة هذه المعسكرات القريبة من الحياة العادية قد نفت روح الكآبة وجو التوتر الذي تتميز به السجون التقليدية وأشاعت ثقة وتفاهما في العلاقة بين نزلائها والقائمين على إدارتها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تكاليف إنشاء هذه المعسكرات وإدارتها أقل بكثير من تكاليف السجون التقليدية. وهذه المزايا قد وجهت الأذهان إلى التفكير في إنشاء مؤسسات عقابية على مثال هذه المعسكرات. وقد دعم هذا الاتجاه أن الظروف الاقتصادية التي اجتازتها أغلب الدول عقب الحرب قد فرضت عليها التفكير في نفقات إنشاء سجون جديدة، فحملها ذلك على إقامة المؤسسات المفتوحة، منظوراً في ذلك إلى أنها أقل كلفة (راجع على سبيل المثال: د. محمود نجيب حسني، علم العقاب، المرجع السابق، رقم 167، ص 194).

والواقع أن تجربة السجون المفتوحة يمكن أن نجد لها تطبيقاً ضارباً في القدم، ويعود إلى صدر الإسلام، وتحديداً في زمن الفاروق عمر بن الخطاب. وتتعلق هذه التجربة بأحد الشعراء المشهورين في الجاهلية وصدر الإسلام، ويدعى أبو مِحْجَن الثقفي، واسمه كاملاً هو: عمرو بن حبيب بن عمرو بن عمير ابن عوف. وهو أحد الأبطال الشعراء الكرماء في الجاهلية والإسلام. أسلم في العام التاسع الهجري، وروى عدة أحاديث. وكان منهمكاً في شرب النبيذ، فحده عمر مراراً، ثم نفاه إلى جزيرة بالبحر. فهرب، ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية يحارب الفرس، فكتب إليه عمر أن يحبسه، فحبسه سعد عنده. واشتد القتال في أحد أيام القادسية، فالتمس أبو مِحْجَن من امرأة سعد (سلمى) أن تحل قيده، وعاهدها أن يعود إلى القيد إن سلم، وأنشد أبياتاً في ذلك، فخلت سبيله، فقاتل قتالاً عجيباً، ورجع بعد المعركة إلى قيده وسجنه. فحدثت سلمى سعداً بخبره، فأطلقه، وقال له: لن أحدك أبداً. فترك النبيذ وقال: كنت آنف أن أتركه من أجل الحد! وتوفي بأذربيجان أو بجرجان. وبعض شعره مجموع في ديوان صغير.

ولبيان وجهة نظرنا في هذا الشأن، نرى من الملائم إلقاء الضوء بشكل أكبر على بعض العناصر الأساسية التي تشكل تحولاً فاصلاً في حياة الشاعر أبي مِحْجَن الثقفي، والتي تشكل في اعتقادنا تطبيقاً ضارباً في القدم لتجربة السجون المفتوحة، الأمر الذي يتضح من خلال العرض التالي:

إدمان أبو مِحْجَن الثقفي على شرب الخمر
في المراحل الأولى من عمره، ابتلي الشاعر أبي مِحْجَن الثقفي بشرب الخمر. ولعل ذلك يبدو جلياً في العديد من قصائده الشعرية، نذكر منها قصيدته التي يقول فيها:
إذا مُتُّ فادفِنِّي إِلى جَنبِ كَرمَةٍ … تُرَوّي عظامي بعد موتي عُروقُها
ولا تَدفِنَنّي بالفلاةِ فإنّني … أخافُ إذا ما مُتُّ أن لا أذوقُها

وفي قصيدة أخرى، يقول:
إذا مُت فادفِنّي إِلى أصلِ كَرمَةٍ … تروّي عظامي في التراب عروقُها
ولا تَدفِنَنّي بالفلاةِ فإنّني … أخافُ إذا ما مُتُّ أن لا أذوقُها
أُباكِرُها عند الشروقِ وتارةً … يُعاجلني بعد العشيّ غَبوقُها
وللكأسِ والصهباءِ حقُّ منعَّمٍ … فمن حقّها أن لا تُضاعَ حُقُوقُها
أقوِّمُها زِقاً بِحِقِّ بِذاكُمُ … يُساقُ الينا تَجرُها ونَسوقُها
وعندي على شُربِ العُقارِ حَفيظةٌ … إذا ما نِساءُ الحيّ ضاقت حُلُوقُها
وأُعجِلنَ عن شدِّ المآزر وُلَّها … مُفَجّعةَ الأصواتِ قد جَفَّ ريقُها
وأمنعُ جارَ البيتِ مما ينوبُهُ … وأكرِمُ أضيافاً قِراها طُروقُها

وفي قصيدة ثالثة، يقول:
ألا سَقِّني يا صاحِ خمراً فإنّني … بما أنزلَ الرحمنُ في الخمرِ عالمُ
وجُد لي بها صِرفاً لأَزدادَ مَأثماً … ففي شُربها صِرفاً تتِمُّ المآثمُ
هي النّارُ إِلاَّ أنّني نلتُ لذةً … وقضَّيتُ أوطاري وإن لام لائمُ

وفي قصيدة رابعة، يقول:
إن كانتِ الخمرُ قد عَزّت وقد مُنِعَت … وحالَ من دونها الإسلامُ والحرَجُ
فقد أباكِرُها رِياً وأشربُها … صِرفاً وأطرَب أحياناً فأمتزجُ
وقد تقومُ على رأسي مُغنّيةٌ … فيها إذا رَفعت من صوتها غُنُجٌ
تُرفِّعُ الصوتَ أحياناً وتخفِضُهُ … كما يَطِنُّ ذبابُ الروضةِ الهَزِجُ

وفي قصيدة خامسة، يقول:
صَاحِبا سُوءٍ صَحِبتُهُما … صاحَباني يومَ ارتَحِلُ
ويقولانِ ارتحل مَعَنا … وأقول إنّني ثَمِلُ
إنّني باكرتُ مُترَعَةً … مُزّةً راووقُها خَضِلُ

وقد كان من نتيجة ذلك أن حده الفاروق عمر بن الخطاب مرات عدة، ثم نفاه إلى جزيرة بالبحر. فهرب، ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية يحارب الفرس، فكتب إليه عمر أن يحبسه، فحبسه سعد عنده.

وضع أبي مِحْجَنٍ الثقفي في السجن يوم القادسية
روى ابن أبي شيبة في «مصنفه» (33746)، وسعيد بن منصور في «سننه» (2502) عن أبي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «أُتِيَ سَعْدٌ بِأَبِي مِحْجَنٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِهِ إِلَى الْقَيْدِ، وَكَانَتْ بِسَعْدٍ جِرَاحَةٌ فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ إِلَى النَّاسِ قَالَ: وَصَعِدُوا بِهِ فَوْقَ الْعُذَيْبِ لَيَنْظُرَ إِلَى النَّاسِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ.

خروج أبو مِحْجَن الثقفي من السجن للمشاركة في المعركة
لَمَّا التقى الناس في ساحات القتال يوم القادسية، وبدأت المعركة وقعقعت السيوف والرماح وتعالت أصوات الخيول، صعد أَبُو مِحْجَن الثقفي بعد أن دخل الليل إلى سعد، وهو مشرف من فوق القصر، يستعفيه ويسترضيه، ويسأله أن يفك قيده ويسمح له بالقتال، فزجره سعد ورده إلى محبسه، فنزل إليه، ثم جاء إلى امرأة سعد فقال: يا سلمى، يا بنت آل خصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: «تخلين عني وتعيرني البلقاء (فرس سعد)، فلله على إن سلمني الله أن أرجع إليك، حتى أضع رجلي في قيدي». وقيل إنه قال لِابْنَةِ حَصْفَةَ امْرَأَةِ سَعْدٍ: «أَطْلِقِينِي وَلَكِ اللَّهُ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ، وَإِنْ قُتِلْتُ اسْتَرَحْتُمْ مِنِّي».

ولكن، سلمى زوجة سعد بن أبي وقاص رفضت، قائلة: ما أنا وذاك. فرجع أَبُو مِحْجَن إلى مكانه يرسف في قيوده، ويقول:
كَفَى حَزَنًا أَنْ تُطْرَدَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا … وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وِثَاقِيَا
إذا قُمتَ عَنّاني الحديدُ وأُغلِقَت … مَصارعُ من دوني تُصِمُّ المُناديا
وقد كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ … فأصبحتُ منهم واحداً لا أخا ليا
فإن مُتُّ كانت حاجةً قد قَضيتُها … وخَلّفتُ سَعداً وحدَه والأمانيا
وقد شَفّ جسمي أنني كلّ شارقٍ … أعالجُ كبلاً مُصمَتاً قد بَرَانيا
فللّه درِّي يوم أُترَكُ مُوثَقاً … وتذهلُ عني أُسرتي ورجاليا
حبيساً عن الحرب العَوَان وقد بَدت … وإعمالُ غيري يوم ذاك العواليا
ولِلهِ عهدٌ لا أخيسُ بعهدِه … لئن فُرِجَت أن لا أزور الحوانيا
هَلُمَّ سلاحي لا أبا لكَ إنني … أرى الحربَ لا تزدادُ إِلا تماديا

فراجعت سلمى نفسها، وقالت: إني استخرت الله، ورضيت بعهدك، فأطلقته، وقالت: أما فرس فلا أعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتاد أبو مِحْجَن الفرس، فأخرجها من الباب الخلفي للقصر المواجه للخندق – وكان يقال لها: الْبَلْقَاءِ – فركبها ثم دب عليها، واتجه إلى الميمنة حيث قومه من بني ثقيف، فكبر، وحمل على بيرة الفرس، يلعب برمحه وسيفه بين الصفين، ثم رجع من خلف المسلمين، واتجه إلى الميسرة، فكبر وحمل على ميمنة المجوس، يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب، فبرز أمام الناس، فحمل على العجم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، فكأن يقصف المجوس ليلتئذ قصفاً منكراً، ولا يحمل على رجل إلا قتله، ودق صلبه، والناس منه في أشد العجب، وهم لا يعرفونه، ويغلب على ظننا أنه كان ملثماً. إذ لو كان حاسر الوجه لعرفوه، ولم يكن أحد قد رآه بالنهار.

وكان سعد من أحد الناس بصراً، فجعل ينظر إليه في ظلام الليل وهو مشرف مكب من فوق القصر ويقول: «من ذلك الفارس؟». الضَّبْرُ [أي: الركض] ضَبْرُ الْبَلْقَاءِ، وَالطَّعْنُ طَعْنُ أَبِي مِحْجَنٍ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْد!! والله لولا محبس أبي مِحْجَنٍ لقلت: هذا أبو مِحْجَنٍ، وهذه الْبَلْقَاء وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا: ملك يثبتنا…. ولا يذكر الناس أبا الْبَلْقَاء ولا يأبهون له، لعلمهم أنه بات في محبسه.

عودة أبو مِحْجَن الثقفي اختياراً إلى السجن بعد تحقيق النصر
بعد أن انتصف الليل، تحاجز الفرس وتراجع المسلمون، وأسرع أبو مِحْجَن فأقبل حتى دخل من حيث خرج، ووضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجليه في قيده. وفي اليوم التالي، أتت سلمى سعداً وأخبرته خبرها، وخبر أبي مِحْجَنٍ، فسامحه سعد، ودعا به فأطلقه.

إخلاء سبيل أبي مِحْجَنٍ الثقفي
إزاء ما فعله أبو مِحْجَن الثقفي من بلاء حسن في المعركة، وإسهامه في تحقيق النصر على الأعداء، َقال سيدنا سعد ابن أبي وقاص، رضي الله عنه: «لَا وَاللَّهِ لَا أَضْرِبُ بَعْدَ الْيَوْمِ رَجُلًا، أَبْلَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى يَدَيْهِ مَا أَبْلَاهُمْ»، فَخَلَّى سَبِيلَهُ.

وقد أثار هذا القول من سيدنا سعد ابن أبي وقاص تساؤل البعض عن مدى جواز ذلك منه، وكيف لا يقيم حداً من حدود الله تعالى، على حد وصفهم؟ ومن ثم، ربما يشكك البعض في صحة هذا القول من سيدنا سعد. ورداً على ذلك، تكاد تجمع كتب الفقه على صحة هذا القول من سيدنا سعد، مؤكدة أن «هذا إسناد صحيح متصل، رجاله كلهم ثقات». وله شاهد عند عبد الرزاق في «مصنفه» (17077) يرويه عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ به بنحوه. وابن سيرين لم يدرك سعدا رضي الله عنه، ولا نعلم أدرك أبا محجن أم لا، ولكن مراسيله جياد، قال ابن عبد البر رحمه الله: «أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ أَصَحُّ التَّابِعِينَ مَرَاسِيلَ، وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَرْوِي وَلَا يَأْخُذُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَأَنَّ مَرَاسِلَهُ صِحَاحٌ كُلُّهَا، لَيْسَ كَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ» (يراجع: التمهيد، الجزء الثامن، ص 301).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ مِنْ أَوَرِعِ النَّاسِ فِي مَنْطِقِهِ، وَمَرَاسِيلُهُ مِنْ أَصَحِّ الْمَرَاسِيل» (يراجع: منهاج السنة النبوية، الجزء السادس، ص 237).

وله شاهد آخر يرويه أبو بكر الدينوري في «المجالسة» (3/ 381) من طريق الْأَصْمَعِيِّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ به. وعمير بن إسحاق وثقه ابن معين وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات (يراجع: تهذيب التهذيب، الجزء الثامن، ص 127).

فالقصة إذن صحيحة ثابتة. ومن ثم، يبقى التساؤل قائماً عن مدى جواز هذا القول من سيدنا سعد بن أبي وقاص. وفي الإجابة عن هذا التساؤل، يقول بعض الفقهاء إن «ما فعله سعد مع أبي محجن رضي الله عنهما، من تركه إقامة الحد عليه ليس من تعطيل حدود الله تعالى، ولكنه لما رأى ما أبلى به أبو محجن من بلاء حسن في الحرب، وبذله نفسه في سبيل الله، وعلم من حاله صدقه في التوبة من الشراب: درأ عنه الحد، وليس هذا تعطيلاً له، وإنما هو من باب محو السيئة السالفة بالحسنة الماحية، وأن التوبة تجبّ ما قبلها».

وقال ابن القيم رحمه الله: «الظَّاهِرُ أَنَّ سَعْدًا – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى تَأْثِيرَ أَبِي مِحْجَنٍ فِي الدِّينِ، وَجِهَادِهِ، وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ لِلَّهِ مَا رَأَى: دَرَأَ عَنْهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ، غَمَرَتْ هَذِهِ السَّيِّئَةَ الْوَاحِدَةَ، وَجَعَلَتْهَا كَقَطْرَةٍ نجاسةٍ وَقَعَتْ فِي بَحْرٍ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ شَامَ مِنْهُ مَخَايِلَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَقْتَ الْقِتَالِ؛ إذْ لَا يَظُنُّ مُسْلِمٌ إصْرَارَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ يَرَى الْمَوْتَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ، وَوَضْعِ رِجْلِهِ فِي الْقَيْدِ اخْتِيَارًا: قَدْ اسْتَحَقَّ أَنْ يُوهَبَ لَهُ حَدُّهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِلرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ: «هَلْ صَلَّيْت مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك حَدَّك» (يراجع: إعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 14).

وتكلم الحافظ ابن حجر رحمه الله على ما في قصة أَبِي مِحْجَنٍ، من ذكر الخمر، وعدم حد سعد له، فقال: «وقد عاب ابن فتحون، أبا عمر [يعني: ابن عبد البر] على ما ذكره في قصة أبي محجن: أنه كان منهمكا في الشراب. فقال: كان يكفيه ذكر حدّه عليه، والسكوت عنه أليق!! والأولى في أمره: ما أخرجه سيف في الفتوح أن امرأة سعد سألته فيم حبس؟ فقال: واللَّه ما حبست على حرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية فندّ كثيرا على لساني وصفها، فحبسني بذلك، فأعلمت بذلك سعدا، فقال: اذهب، فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله. [قال الحافظ ابن حجر رحمه الله]: قلت: سيف ضعيف، والروايات التي ذكرناها أقوى وأشهر.

وأنكر ابن فتحون قول من روى أن سعدا أبطل عنه الحد، وقال: لا يُظنّ هذا بسعد. ثم قال: لكن له وجه حسن. ولم يذكره!! وكأنه أراد: أن سعدا أراد بقوله: لا يجلده في الخمر، بشرط أضمره؛ وهو: إن ثبت عليه أنه شربها، فوفّقه اللَّه أن تاب توبة نصوحا، فلم يعد إليها كما في بقية القصة (يراجع: الإصابة في تمييز الصحابة، الجزء السابع، ص 302).

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إنما أخر قيام الحد عليه، لأن الحدود لا تقام في أرض الحرب، فإذا رجع أقيم عليه الحد. فالحدّ إنما أخِّر لعارض، كما يؤخر لمرض أو شغل، فإذا زال العارض، أقيم الحد، لوجود مقتضيه، وانتفاء معارضه. قال ابن القيم رحمه الله: «وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض؛ فهذا تأخير لمصلحة المحدود؛ فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى» (يراجع: إعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 14). (وينظر أيضاً: المغني، الجزء التاسع، ص 308- 310؛ د. عزت الجرحي، الضوابط الشرعية لوقف العمل بنصوص القرآن والسنة، ص 470 و471).

وعلق بعض الفقه على موقف سيدنا سعد ابن أبي وقاص، وعفوه عن أبي مِحْجَنٍ، قائلاً: َ«ظَهَرَتْ بَرَكَةُ هَذَا الْعَفْوِ وَالْإِسْقَاطِ فِي صِدْقِ تَوْبَتِهِ».

تخلي أبو محجن الثقفي نهائياً عن شرب الخمر
على كل حال، وأياً كان وجه الرأي في قول سيدنا سعد بشأن عدم إقامة الحد على أبي مِحْجَنٍ، فَإن هذا الشاعر المغوار الذي كان سبباً رئيسياً في تحقيق النصر على الفرس في معركة القادسية قد تخلى وأقلع عن شرب الخمر نهائياً بعد ما حدث في معركة القادسية. وفي ذلك، قال أَبُو مِحْجَنٍ: «قَدْ كُنْتُ أَشْرَبُهَا إِذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ، وَأَطْهُرُ مِنْهَا، فَأَمَّا إِذَا بَهْرَجْتَنِي، فَلَا وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا». وَفِي رِوَايَةٍ «أَبَدَ الْأَبَدِ». وَفِي رِوَايَةٍ «قَدْ كُنْت آنَفُ أَنْ أَتْرُكَهَا مِنْ أَجْلِ جَلَدَاتِكُمْ، فَأَمَّا إذْ تَرَكْتُمُونِي فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا». وَقَدْ بَرِئَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ بِبَنِي جَذِيمَةَ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ” وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِهِ؛ لِحُسْنِ بَلَائِهِ وَنَصْرِهِ لِلْإِسْلَام» (يراجع: إعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 14).

وهكذا، وبعد أن كانت أشعاره تفيض بمدح الخمر وشاربيها، نجده بعد أن أقلع عن شرب الخمر لا يكف عن إظهار ذم شرب الخمر، وإعلان توبته عن هذا السلوك البغيض. ففي إحدى قصائده التي تعود إلى ما بعد معركة القادسية وتخليه نهائياً عن شرب الخمر، يقول الشاعر أَبُو مِحْجَنٍ الثقفي:
يقول أُناسٌ إشرب الخمرَ إنها …. إذا القومُ نالوها أصابوا الغنائما
فقُلتُ لهم جَهلاً كَذبتم أَلم ترَوا …. أَخاها سفيهاً بعد ما كان حالماً
وأضحى وأمسى مُستَخَفّاً مُهَيَّماً … وحسبُك عاراً أن ترى المرءَ هائماً

وفي قصيدة أخرى، يقول:
أتوبُ إِلى الله الرحيم فإنه … غفورٌ لذنبِ المرءِ ما لم يُعاودِ
ولستُ إِلى الصَّهباءِ ما عِشتُ عائداً … ولا تابعاً قولَ السفيهِ المُعاندِ
وكيفَ وقد أعطَيتُ ربَّي مَواثِقاً … أعودُ لها واللهُ ذو العرشِ شاهدي
سأترُكُها مَذمومةً لا أذوقُها … وإِن رَغِمَت فيها أنوفُ حواسدي

وفي قصيدة ثالثة، يقول:
ألَم تَرَني وَدَّعتُ ما كنتُ أشربُ … من الخمر إذ رأسي لَكَ الخيرُ أشيبُ
وكنتُ أروِّي هامَتي من عُقارها … إذِ الحدُّ مأخوذٌ وإذ أنا أُضرَبُ
فلمّا دَرَوا عنِّي الحدودَ تركتُها … وأضمرتُ فيها الخيرَ والخيرُ يُطلَبُ
وقال ليَ النَدمانُ لما تركتُها … أألجِدُّ هذا مِنكَ أم أنتَ تَلعبُ
وقالوا عجيبٌ تركُكَ اليومَ قهوةً … كأنَي مجنون وجِلديَ أجربُ
سأتركُها للهِ ثم أذُّمها … وأهجرُها في بيتها حيثُ تُشرَبُ

ويقول في قصيدة رابعة:
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها … مناقبُ تُهلِكُ الرُجلَ الحليما
فلا واللهِ أشربُها حياتي … ولا أسقي بها أبداً نديما

 

هل يشكل الدعاء على شخص جريمة سب؟

زر الذهاب إلى الأعلى