بين الخيال رحم العقل والعناية التي تتطلبها الحياة
بين الخيال رحم العقل والعناية التي تتطلبها الحياة
نشر بجريدة الوطن الجمعة 21ــ 8 ــ 2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
يلحظ المراقب المتابع لأحوال الآدمي، أن اللغة قوام حياته، ووعاء تفكيره، وأداة تواصله.. وأنه صار بفضلها كائنًا خلاقٍا.. فبهـا وبمفرداتها القديمة أو المستحدثة يطلق على ما يتصوره أو يخاله أو يتخيله أو يجده أو يوجده اسمًا أو أسمـاءً، فيصبح للمسمـى عند الآدمي أو الآدميين وجود يطول أو يقصر.. يتعامل معه أو ضده أو بناءً عليه أو أخذًا منه أو رجوعًا إليه!
خذ مثلاً كلمة «الكون».. تطلق على كل موجود في الحاضر أو كان موجودًا في السالف أو ما سيكون موجودًا في المستقبل.. أين وكيف ولماذا؟ لا تسأل ولا ينبغي لك أن تسأل، البدائيون استعملوا كلمة الكون أو ما في مدلولها طبقًا لفهمهم وزمانهم ومحيطهم، والمتحضرون في كل حضارة استخدموها دون أن يلفت نظرهم قط أنها تغطى أوسع منطقة من الإبهام والغموض والبعد عن اليقين والتحديد والبعد بالتالي عن الوضوح وإمكان الرؤية الكاشفة المفسرة ـبالنسبة للعقل البشري.. حتى عقل علماء الفلك والفيزياء والذرة والكيمياء والرياضة البحتة الآن وإلى مستقبل طويل!
ومع ذلك ترى الكل يستعمل كلمة «الكون» بلا أي تردد: الصغار والكبار، النساء والرجال، في الريف والحضر.. نثرًا وشعرًا.. لا يخلو منها دين ولا دنيا ولا أسطورة أو علم أو فن، هذه الكلمة حقيبة سحرية تحتوي على كل ما يجهله الناس في كل عصر وقطر، وكل ما يتصورون أنهم يعرفونه وهم في الواقع لا يعرفونه، وكل ما يعتقدون أنه فى ظنهم قد وقع وهو لم يقع قط، وكل ما يقدرون وقـوعه مما لن يقع أبدًا!!
ضمن هذه الحقيبة السحرية المفعمة بالغموض والمجهول، ولد ويولد كل آدمي وليس معه إلاّ عقل مشتاق إلى المعرفة.. يطفئ شوقه إليها بخياله، ويطفئه في أكثر الأحيان بما يخلقه من الأسماء التي لا تجهد خياله، وكلما عمت هذه الأسماء أو اتسع مدلولها كانت أطول عمراً وأكثر انتشارًا وأعصى على أن يكذبها واقع حياة الآدمي القصيرة المليئة بالهموم والشواغل!
والفارق في هذا ليس كبيرًا جدًا بين من يوجد في مكتبة حافلة بأمهات الكتب والمراجع وصنوف العلوم، وبين بسيط يعيش في حقل أو ورشة، أو بين السوقة.. فقد تظهر الكتب كثافة ذلك الغموض وقـد تزيدها، وقد تخفف بعض الغموض خشونة الحقل أو ضجة الورشة أو سكار السوق!
كان من نتح ما درج ويدرج عليه الناس، أن فقد الخطاب بعامة ما يجب أن يكون له من ضبط وتحديد، وأن فقدت كثير من الكلمات معانيها، وانفصمت الصلة بين الكلمة والفعل أو السلوك، وجعلت الكلمات تحل شيئًا فشيئًا محل الأعمال، دون أن يتفطن القائلون أنهم لا يفعلون شيئًا، وإنما يقيمون تلالاً فوق تلال من كلام يصير مع التراكم وفقدان الفهم إلى لغـو في لغـو، لا يحدث طحنـًا ولا يقدم ناتجًا ولا حصادًا!!!
الخيال النشط رحم العقل الخصيب.. دونه يكون العقل جهازًا عقيمًا.. يخفق صاحبه في الائتلاف والمحبة وحسن العشرة والجوار.. وهذا حال كثيرين من المتعلمين، لأن التعليـم والتعلـم لا يطلب له ولا يقوم على إذكاء الخيال وتنشيطه.. ومع كثرة المتعلمين عندنا وعند غيـرنا نجد القادة الأكفاء القادرين على إشعال الحماس والتساند وبناء الود والدأب طويلي الأجل قليلين جدًا.. بينما نجد زيادة هائلة في أعداد الرافضين الساخطين ضيقي الصدور والأفكار، المولعين باكتشاف أخطاء الغير ونواقصهم، المتعصبين المنتصرين دائمًا لآرائهم، لأن خيالهم الضيق لا يمكن أن يتسع لرؤيةٍ أخرى خلاف ما استصوبوه واعتنقوه!!!
وأعجب العجب إنكار أهل الأديان نشاط الخيال عند الأنبياء أصحاب الرسالات.. مع أن هذه الصفة وتلك القدرة من عناصر اصطفاء السماء لهم، ومن أسباب ومقومات نجاحهم في حمل وتبليغ رسالاتهم وبقائها حتى الآن حية قابلة للحياة!
* * *
لا يولد أحد ومعه أفكار، بل يولد ومعه استعداد للانتفاع بها ونقلها وتطويرها على درجات مختلفة في هذا الاستعداد، واختلاف درجات هذا الاستعداد ملحوظ في كل جماعة بشرية كانت أو تكون، وإليه يرجع في الغالبية وجود الكتل ككتل وهبوط مستواها الفكري بالقياس إلى سواها من الطبقات في أي جماعة كانت أو تكون!
وكل مولود يلتقط منذ أن يولد ما ينفعه من الأفكار الجارية في محيطه الذي يتسع باستمرار وعلى قدر ما يهيئه ذلك المحيط ويسمح به، لأن المحيط هو أساسًا خزانة الأفكار -وحياة الأفكار هي حياتها ووجودها في محيط- إذ هي لا شيء إلاّ اكتتاب في رأس المال العام الفكري من هذا أو ذاك خلال انتفاعه بما يلتقطه من الأفكار الجارية في محيطه وأيًّا كان هذا الانتفاع توكيدًا أو تطويرًا أو تنفيذًا أو تعديلاً أو إلغاءً.. بناءً أو هدمًا تقدمًا أو تأخرًا.. صوابًا أو خطأً، صدقًا أو كذبًا، حلالاً أو حرامًا، ذكاءً أو غباءً، علمًا أو خرافة!!
وقد يبدو من الرضيع أو الصبي أنه يأخذ ولا يعطي، لكنه بوجوده والتفات الكبار إليه يكتتب في رأس المال العام الفكري، ثم لا يلبث أن يشب ويحاول بدوره أن يفكر مستعملاً ما التقطه وعالجه أو عامله في استخدامه وتجاربه وفهمه.. ويعرض ذلك على من حوله مدفوعًا بالخاصية الأساسية للأفكار وهي حرصها على الانتشار والإذاعة أي على ملء خزانة المحيط.
وفيما يبدو أن الاستعداد الذي يولد مع الآدمي لالتقاط الأفكار والانتفاع بها وتطويرها، ليس استعدادًا ثابتًا.. إذ ليس في حياة الأحياء شيء ثابت، ولا أعرف شخصيًّا إن كان هذا الاستعداد قد أخضع لقياس ما كما أخضع الذكاء أو الغذاء الكافي أو معدل الأعمار أو الاستعداد لبعض الأمراض، فالحديث عنه ما زال حديثًا عامًّا غامضًا قليل الجدوى والنفع لواقع الآدمي.
ولكن ربما كان من الخير أن نلتفت إلى وجود ذلك الاستعداد، وأنه وجود لإمكانيةٍ فقط من إمكانيات الحياة الآدمية يحتاج تحققها إلى الوجود في محيط كافٍ لوقت كافٍ يسمح بالاستمرار والنمو والتطور بعد خروج من الرحم إلى العالم الذي تستعمل فيه الحواس ويتبادل فيه الآدمي مع محيطه الأخذ والعطاء إلى آخر عمره ويترك في محيطه بعد أن يغادره أشياء اكتتب بها وانضافت دون أن يشعر في الغالب إلى رأس المال العام الفكري في مجتمعه.
لذلك ينبغي حين نحتفي بالأصالة والإبداع والنبوغ والعبقرية وسعة العلم وفيض الحكمة وندرة الذكاء واجتماع الكفايات أن نتنبه إلى أننا إنما نصف درجات في ذلك الاستعداد لالتقاط الأفكار والانتفاع بها وتطويرها وأننا جميعًا نسقى من ماء واحد ويختلف بعضنا عن بعض في الأكل وأننا جميعًا أحياء وماؤنا الواحد حيّ يتغير ويتطور كما يتغير ويتطور كل حيّ وسقيانا منه هي الأخرى تتغير وتتطور أيضًا وباستمرار إلى الأمام أو إلى الخلف!
وعدم رضانا بما يتعين ويحدث باطراد في حياتنا قد يبدو أنه شيء يتعارض مع تمسكنا بالحياة وحرصنا عليه، لكن واقع الحال أننا نتمسك بالحياة نفسها كما هي كإمكانيات واستطاعات وآمال ورغبات ومخاوف ولا نتمسك بحوادثها وتعييناتها سواء المنسوبة إلينا أو المعزوة إلى الآخرين أو الطبيعة.. ويبدأ تمسكنا بها يضعف حين يداخلنا شك قوى بأن حياتنا ليس فيها أكثر مما تعين وحدث فعلا ورأيناه ورآه غيرنا منها.. عندئذ نبدأ نفقد إيماننا الفطري أو الطفلي بها وبجعبتها التي لا تنفد وتخبو ثقتنا بأن عندها ما قد يرضينا أو لا بد أن يرضينا بطريقة أو بأخرى رضا ليس تافهًا ولا عرضيًّا ولا وهميًّا!
ونحن نعيش أغلب الوقت دون أن نهتم بالحكم على حياتنا وقيمتها وهي قيمة على كل حال مهما كانت، وهذا قد يفسّر إنفاقنا وبعثرتنا وتبديدنا لها كيفما اتفق بلا حساب ولا غاية وترك الآخرين يدفعوننا إلى إنفاقها وتبديدها بلا عناية ولا احتفال كأن فكرة الجدوى غير أصيلة بالنسبة للحياة.. ولكن الخلط بين الجدوى وبين العناية غير معقول بالنسبة للحياة.. فالحياة تستلزم العناية بها، وإذا كانت الجدوى سؤالاً لا تسأله الحياة الطبيعية وإنما يسأله عقل الإنسان فقط، فإن العناية تتطلبها الحياة والطبيعة وتلاحظانها في أدق الأشياء وأكبرها !