بين الأنانية والعناد والإيلاف!

نشر بمجلة الدبلوماسى عدد سبتمبر ـ أكتوبر 2021

   ــــــ 

بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين

 

يبدو لى أن أجهزة الصرف البدنية فى جسم الآدمى أكثر كفاية وأشد وضوحًا وانتظامًا من أجهزة الصرف الفكرية والعاطفية ؛ وأن الفضلات الفكرية والعاطفية التى لا ينقطع إفرازنا لها ما دمنا أحياء لا نتخلص منها بانتظام وبساطة ووعى .. بل تلقى فى بئر الذاكرة تغوص إلى قاعه مع مرور الزمن وتعاقب الأحداث وتقدم السن .. وهذا الترك أو النسيان ـ هو انصراف من وعينا إلى أمور أخرى التفتنا إليها وانشغلنا بها فاعتقدنا أن تلك الفضلات بفعل نسياننا إياها لم يعد لها وجود أو تأثير , وهذا غير صحيح لأنها وهى ملقاة فى بئر الذاكرة تفعل أفعالها التى لا نفطن لها ـ وفى باقى ما تحتويه تلك البئر التى هى فى نفس الوقت خزانة أفكار وعواطف كل منا إلى أن يفارق الدنيا .. وكل آدمى قد يشعر بين وقت وآخر بالقلق أو الأسف أو الندم أو الذنب أو الإثم بسبب ما كان منه من قرار أو موقف أو اختيار أو ارتباط أو تصرف أو سلوك أو اتجاه فى الماضى .. يرفضه الآن ويتمنى التخلص من نسبته إليه ومحوه من صحيفته إلى غير عودة .. وهذا هو مضمون ما نسميه الغفران أو الخلاص . وهو لا يتم إلاّ بأن نقوم من قبله بإصلاح ما عساه أن يكون قد أفسده سلوكنا فى الماضى فى محيطنا ورد ما أخذناه بغير حق وتعويض ما تسببنا فيه من ضرر أو خسارة للغير , وأحيانا لا يكون هذا ممكنا كله فنكتفى بإصلاح ما أمكننا ويبقىالباقى يشوش علينا داخلنا ونتجه فيه إلى الله تعالى .. هذا إذا كانت فينا بقية خير دعتنا إلىمراجعة النفس والتعامل فيما أحدثت أو جرى بسببها إلى غيرنا وبقية إرادة طيبة تدفعنا إلى تقويم ما اختل من سلوكنا ـ أما ما اختلط فيه الحال فإن بئر الذاكرة يدفع لدينا اللاحق بماضينا السيىء إلى حاضرنا فيجعله أشد سوءًا وأكثر قسوة وأعتى ظلمًا وأثقل يدًا ووطأة على من حولنا ومن لا نخاف منه ولا نخشاه إذا صادف واتصل بنا .. عندئذ يمكن للناس أن يقولوا عن اتجاهاتنا وميولنا وعاداتنا ما يمكنهم قوله من أوصاف سلبية نسمعها أو نسمع بها ولا نأبه لها .. لأنها تقى سمعتنا من الضعف فى نظرنا .. ونحن فى ذلك لا نشعر إلاّ بانفرادنا وعنادنا بانفرادنا وتباهينا بهذين العناد والانفراد . ولا نرى كم بابٍ أوصدناه من أبواب الأخوّة والود والثقة وكم باب فتحناه للشك والريبة والتشاؤم والخوف وعدم الأمان والجبن !!!

ومنذ ملايين السنين ؛ نقسم النوع الآدمى داخل الجماعات البشرية إلى هذين القسمين .. إما قسمًا انفراديًا عنيدًا لا يألف ولا يأتلف من داخله ولا يبالى إلاّ بنفسه وما تريد وتهوى وتخاف .. وإما أن يكون اجتماعيًا لا يمكن أن يحس أنه حىّ موجود إلاّ مع آخرين , يفترض أنهم من نوعه ومثله , يحبهم ويحبونه ويكرههم ويكرهونه ويساعدهم حينًا ويخذلهم حينًا آخر ويبادلونه هم أيضا المساعدة والخذلان ويذكر لهم وعليهم وينسى ؛ كما يذكرون له وعليه وينسون .. كل ذلك بنسب ودرجات شديدة الاختلاف ؛ تعطى لصلات الأفراد بعضهم ببعض طعمًا خاصًا يتميز به كل منهم عن غيره فى نظر نفسه ونظر الآخرين ـ وإذا كانت الجماعات منذ وجدت قد قامت على أكتاف هذا القسم الاجتماعى ؛ فإنها لم تخل قط فى أى وقت من وجود القسم الانفرادى التام الأنانية والأثرة , ولم تخل قط من تأثيره الضار والنافع على طبيعة جانب المعقولية الذىلا يخلو منه شىء موجود فى الكون .

ربما كانت الأنانية غير العادية وليدة نقص ما فى استعداد الشخص ، لا سبيل لصاحبه إلى تغييره بل ولا إلى تقويمه ـ وتقليل أثره على سلوكه وموقفه من الآخرين , لكن معظمنا لا يدخل ذلك فى أحكامه وتقديراته .. لأننا درجنا من قديم الأزل ـ على الأخذ فقط بالأسباب الإرادية الظاهرة فى غالب الأحوال .. وأخذنا بها عشوائى عادة على نحو خالٍ أو يكاد يكون خاليًا من اليقظة والفطنة والعزيمة , ولذلك فقلما نبنى عليها احتياطًا أو موقفًا جادًا ـ بل نكتفى بترديد أحكامنا وتقديراتنا ونكسل عن أن ترتب عليها نتائجها المعقولة ـ ولو فعلنا لتجنبنا الكثير من المشاكل والأزمات والفتن والحروب .. وأغلب هذه البلايا يرجع إلى تركنا الأنانيين والوصوليين ـ يقودون ويكبرون ويتسلطون ويتعاركون ويستخدموننا فى تحقيق مطامعهم وتنفيذ مكائدهم بعضهم لبعض ؛ وفى إنفاق الجهود والأموال والأنفس فيما لا طائل وراءه للناس .. بل ويعوقون تطورهم ويفقدونهم الثقة بأنفسهم وعالمهم ودنياهم ودينهم . فقد يدفع الفرد ثمن كسله وتفريطه اللذين اعتادهما واستطابهما فى بداية الأمر ـ ألوانًا لا أول لها ولا آخر من العبث والعربدة والشطط والاستبداد والطغيان ثم أصنافًا من الاستهانة والمهانة بعد الاندحار والانكسار ليحمل من بعد زوال القادة ـ قادة الأنانية والغرور والعناد والفساد ـ يحملون عبء الخراب والدمار والتماس المعونة والإشفاق من هنا وهنالك ـ لاستعادة بعض ما أخذ منا أو إعادة بناء بعض ما هلك أو انهار علينا .

فالجماعات البشرية منذ كانت ـ أدواؤها منها فيها ؛ ونصيب غالب الجماعة فى التبعة عنها لدى المتأمل يبدو أكبر من حصة المتفردين المستبدين من الرؤساء ومن يتبعهم أو يعيش فى ظلهم من العابثين المتصيدين للنفع الذاتى المتظاهرين بالولاء والوفاء لكل من يسود ويحكم مادام لا يبعدهم أو لا يحرمهم مما هم فيه .

واشتغال انتباه كل حىّ فى كل لحظة من لحظات حياته الطويلة أو القصيرة بأمر أو أكثر , ظاهرة كونية أسبق من الظواهر الطبيعية الأخرى المشاهدة فى الأحياء من مثل التغذى والنوم وغير ذلك , وأسبق من ردود الأفعال المنعكسة ومن المواقف الإيجابية أو السلبية المقصودة لدى أى حىّ . وأكثرنا لم يلتفت ولا يلتفت إلى تلك الظاهرة الكونية التى يشترك فيها الآدميون مع بقية عالم الأحياء. وأنها مفتاح فهم تصرفات الآدميين واختياراتهم أينما كانوا أو وجدوا .. فالعوامل المتجمعة لدى الآدمى فى لحظة الانتباه ـ ذات أثر هام جدًا فى وجود ذلك الانتباه ووجهته أياً كان نوع ذلك الانتباه وصاحبه ومكانه وزمانه . فالنهايات التى تملأ عواطفنا وأذهاننا بقضاياها والتزاماتها وولاءاتها وعداواتها فى ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا البادى لأعيننا وتوقعاتنا ـ تلك النهايات بدايتها كلها بدأت وما زالت تبدأ من تلك الظاهرة الكونية المصاحبة لنا ولمن سبقونا ومن يأتون بعدنا , والمشتركة بيننا وبين سائر الأحياء .. ومعرفتنا لها وتفطننا لدورها فى حياتنا ـ لا ينتقص ولا يغض من قيمة حياتنا وما صاحبها من تطور وتقدم هائلين فى كل اتجاه , وهذه المعرفة وهذا التفطن يحولان بيننا وبين الشطح فى الخيال وتصديق أننا فعلاً بلغنا نهاية ما ينبغى معرفته إذ صارت فى متناول أيدينا مفاتيح الدنيا والآخرة .

لقد حرمت علينا الأديان أن نركن لذلك الغرور وتلك الأحلام ـ حين أعلنت أن أى حىّ لا يمكن أن ينقذه عمله أو عبادته مهما كان أو كانت ـ لأنه حين يلقى الرب يلقاه بلا حيلة أو وسيلة يستند إليها كائن محض محدود .. وإنما يلقى الرب فى كفالة رحمة الرب وغفرانه اللذين لا حدود لهما . ومن ضيق ما معه من إقرار بتمام عجزه وحقارة رجائه لولا رحمة الله تعالى وتفضله سبحانه بالاستجابة إليه , فكل لحظة انتباه نعنيها سبقتها لحظة غفلة بمثابة لحظة يقظة من نوم متقطع ليتصل منه ما ينقطع ويتكرر هذا الانقطاع والاتصال بما لا حد له من المرات صباح مساء طوال حياة كل منا إلى أن يموت .

ومن تلك الترددات التى لا تنقطع تتألف حياتنا الواعية كما تتألف من ترددات التنفس وحركة القلب حياتنا الحيوانية الأصيلة قبل الولادة أو بعدها ؛ ولكن مع اختلاف طول الموجات واختلاف وظائفها .

يقظتنا سلسلة من نقاط أو مرات الانتباه تحسبها ذاكرتنا قصيرة أو طويلة ـ على حسب موضوعها , ونحن نظنها متصلة ونجعل من اتصالها حالة مستمرة نسميها يقظة ـ بسبب يقظة وعينا لالتقاط تلك النقاط كل منها على حدة وإغفال ذاكرتنا لما بين كل منها من مسافة وفراغ إلاّ ما نعتبره هاماً أو طريفًا ـ لتجمع ذاكرتنا بعضه إلى بعض لنستعيده متصلا مرتبطا بعضه ببعض عادة ـ ما لم نتمكن بسبب تخاذلنا أو تحت تأثير تخدير أو جنون .. علما بأن الذاكرة عند الاستعادة تنعش أو تقوى ذلك الارتباط باتصاله بزمانه ومكانه ـ غالباً .

ونحن دائما وأبدًا ـ نمزج ما نفطن إليه من الظواهر الكونية بفضل ما أوتينا ـ أو بفضل ما أوتى بعض أفرادنا من الاستعدادات والمواهب ـ بما هو لا أول له ولا آخر من التصورات البشرية التى يتصورها البعض وينقلها المجموع تقليداً أو تصديقاً .. وهذه برغم ثبات تطبيقها تتغير مضامينها ومعالمها دون أن يشعر الناس تبعاً لتوالى المراحل والأجيال وحلول أجيال أخرى محلها قد تشبهها ولكنها لا تتطابق معها , ونمو الجماعات وتطورها وتقدمها أو تأخرها . وهذا المزج شأنه شأن كل الأنشطة البشرية ليس فيه شىء كونى إلاَّ قابليته للنقص وللنمو والازدهار والفناء , ولكنه لا يكون نقيصة إلاّ إذا حال بينهم وبين الترقى إلى ما هو أكثر فهما وأصح نظرًا وأنفع للجموع فعلاً لا ادعاءً .. لأنه يكون عندئذ ـ جمودًا وعنادًا ورفضًا للترقى والتطور يتحول حتمًا إلى تخلف وتأخر وعزلة . ويستحيل أن يكون الجمود والبناء والرفض حججًا صالحة للمحافظة على الفضيلة أو لصيانة الأخلاق .. لأن الفضيلة والأخلاق تفقدان قيمتهما تمامًا إذا خلتا من العيش فى رعاية العقل الفاهم المتبصر الفطن المنصف , وتصبحان قيدًا ليس له سند حقيقى وقد لا يفيد الكثرة الخاملة الغافلة طويلا فتكون الطامّة .

ونحن عادة نقيس يقظتنا بساعات عدم النوم , ونقيس نومنا بساعات الإغفاء والسبات .. وهو قياس بدائى حيوانى ؛ وكان يجب أن يقيس الإنسان يقظته بلحظات الانتباه وجدواها .. لأن غفلة غير النائم ليست يقظة إنسان بل يقظة حيوان , وربما كان هذا أحد مصادر ما يشاهد الآن فى الجماعات ـ ما تطور منها وما لم يتطور بعد ـ من شيوع الشذوذ والاندفاع وقلة الاتزان ؛ ومن النزوات والرعونات والحماقات ؛ ومن أمارات ودلائل العجز وعدم التوافق والتعاون والاتحاد طويل النفس والأمد .. ومن انطباع ذلك كله على مظاهر وعلاقات الأفراد ؛ وعلى سير وطرائق الحياة العامة اجتماعية واقتصادية وسياسية . فهل تستمر هذه الحال وتتفاقم إلى أن تتناثر الجماعات الكبيرة الحالية وتتشتت وتنتهى بابتعاد أجزائها وطوائفها بعضها من بعض ؛ ويعود الآدميون إلى طور الأسر والقبائل .. وهو ما لا يمكن أن يتم إلا يتوالى وتتابع الفتن الداخلية والحروب الخارجية المدمرة التى تجعل إعادة الجماعات الكبيرة غير ممكنة نتيجة نسيان البشر تاريخهم وتراثهم وانقطاع ظهور الزعماء والقادة الطموحين إلى السيادة والقوة والعمران !!!

زر الذهاب إلى الأعلى