بناء ورعاية الفرد في الإسلام

فى دوحة الإسلام (94)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 24/11/2021
ــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية
بناء ورعاية الفرد
فى الإسلام
يستطيع المتأمل فى حكمة وفلسفة وسياسة ومبادئ وأحكام الإسلام ، أن يرصد أنه قد جعل صلاح « الفرد » الإنساني هدفه وغايته ، وأنه إذ أراد صلاح الحياة والأحياء ، فإنه وجه عنايته للفرد فى تكوينه وتنشئته ورعايته وكفالته ، متتبعا إياه فى كل مرحلة من مراحل حياته منذ واقعة الميلاد حتى مفارقـة الحيـاة الدنيا بالوفاة .. لا تستقيم أحوال الحياة إلاّ باستقامة وصلاح الأحياء .
الحى قبلة الدين الحنيف ، راعاه حتى قبل أن يكون « نطفة » ، وتتبعه نطفة ثم علقة ثم مضغة ، بأن اعتنى بالأسرة التى سوف يتوالد منها ، فجعل الزواج سكنا ومودة ورحمة ، واعتنى بالأم الصالحة التى تلده وترضعه وتحتضنه وترعـاه ، ممن قال القرآن المجيد فيهن : « فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ » ( النساء 34 ) .. اعتنى الإسلام بسلامة محيط تكوين الأجنّـة ، فلم يـدع علاقـة الوالديـن دون إرشاد وتوجيه : « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » ( البقرة 222 )
وكما اعتنى الإسلام بتكوين الجنين ، اعتنى بحسن اختيار « اسم » المولود الذى سوف يواجه به الدنيا .. حتى كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغير الاسم القبيح ، ويوصى المسلمين فيقول لهـم : « إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم » .
« من حق الولد على الوالد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه » .. لا يتركه الإسلام حتى فى رضاعه وفطامه ليوفر له الأساس الصالح من بدايات تكوينه بعد ميلاده ، فيقول القرآن المجيد : « وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا » ( الأحقاف 15 ) .. يوصى الوالدات بإتمام هذا الرضاع وعدم تعجيل الفطام ، فيقول العزيز الرحمن : « وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَـى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » ( البقرة 233 ) .. وفـى سورة لقمان : « وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ » ( لقمان 14 ) ..
هذه الرعاية ليست نتفًا متفرقة تأتى فى الإسلام عفوًا ، وإنما هى أصداء نظر شامل ومنظومة متكاملة .. يتوالد الأبناء فى كنف أمهات وآباء ، يتلقون منهم الحنان والبرّ والعطف والرحمة ، ويقابلون برّهم بالاحترام والإحسان وخفض الجناح لهـم .. أبنـاء اليوم هم آباء ثم أجداد الغد ، ومن هؤلاء وأولاء أنشودة الحياة التى يتغياها الأبرار ويدعون ربهم أن يمن بها عليهم : « وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ » ( الفرقان 74 ) .. قرة الأعين معنًى عريض يعبر عن تكوين نابع من إحسان الأدب والتربية ، وفيض الرحمة والحنان .. فى الحديث : « إذا مـات الإنسـان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو الله » .
صلاح الأولاد ليس ضربة حظ وإنما هى صناعة وتربيـة ومجاهـدة .. فى الحديث « أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم » .. هذا التأديب شامل للأدب الخلقى وللبناء النفسى والبدنى على السواء .. ففى الحديث الشريف : « حق الولـد علـى الوالـد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمى » .. « علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل ».. مع هذه التربية تتواكب التربية الأخلاقية ، فيقول رسول القرآن عليه السلام : « ما نحل والد ولدًا من نحل ، أفضل من أدب حسن ».. الولد ينشأ ويتكون على ما تلقاه وتعلمه وتأدب به من والديه .. أو كما يقـال فـى الحكم والأوابد والأمثال : « كما تدين تدان » !!..
كان من دعائه ووصاياه ـ صلى الله عليه وسلم : « رحـم الله والـدًا أعان ولده على بره » .. « أعينوا أولادكم على البر ». الإعانة على البر عطاء إيجابى مانح ، يعين المتلقى على إحسان التفكير وإحسان الخلق والفعل والسلوك !
دخل الأقرع بن حابس على النبى ـ صلى الله عليه وسلم ، فوجده يقبل حفيده الحسن بن على ، فقال الأقرع مندهشًا : « يا نبى الله . لى عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم ! » .. فيقول له الرحمة المهداة : « ولكنّا والله نقبل أولادنا .. من لا يرحم لا يُرحم .. » .
الرعاية الشاملة للإنسان
فى كل أطوار حياته
رعى الإسلام الإنسان فى كل أطوار حياته ، ابنًا أو بنتًا ، أبًا أو أمًّا ، وزادت عنايته ورعايته بمن ألمّ به نازلة أو حاق به مكروه أو أصابه العجز أو الضعف أو الوهن ، أو تداركته الشيخوخة .. جبر ورعاية الإسلام للضعف والضعفاء ملمح رئيسى يكمل صورة التكافل فى المجتمع .. هذا التكافل لا يعطى ظهره ولا يترك إنساناً فـى موقـف ضعف .. مريضـًا أو محتاجًا .. شيخًا أو عاجزًا .. يتيمًا أو مسكينًا أو أسيرًا .. لا يترك الإسلام أحدًا من هؤلاء إلاّ مد له يد الرعاية والكفالة ، وشملـه بعنايته وبرّه .. يجمع هذه المعانى حديث رسول القرآن عليه السلام : « الضعيف أمير الركب » .
ليس البرّ فى الشكليات والمظهريات وإنما جوهره التراحم الذى اتخذه الإسلام كنفًا راعيا للمجتمع .. فى الآية الكريمة : « لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ » ( البقرة 177) ..
يقول القرآن المجيد فى وصف المؤمنين الأبرار : « وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا » ( الإنسان 8 ) .. عين الإسلام على اليتيم حبًا ورعايةً وكفالةً وحمايةً .. أليس سبحانه وتعالـى القائل لنبيه المصطفى عليه السلام : « أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى » ؟ ( الضحى 6 ) .. يوصيه ـ سبحانـه وتعالـى ـ فـى خواتيم ذات السورة بقوله له : « فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ » ( الضحى 9 ، 10 ) .. رعاية اليتيم نهج إسلامى منبعه وصايا القرآن المجيد والسنة النبوية الشريفة .. من وصايا القرآن : « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »( البقرة 220 ) .
فى حديث الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام : « من عال ثلاثة من الأيتام ، كان كمن قام ليلـه وصـام نهاره ، وكنت أنا وهو فى الجنة » .. يقول عـز من قائل فى كتابه الحكيم : « يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ » ( البقرة 215 ) .. وفى سورة النساء : « وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا » ( النساء 36 ) ..
حـض القرآن المجيد على رعاية أموال اليتامى بالتى هى أحسن فقال : « وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ » ( الأنعام 152 ) .. « وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا » (النساء 2) ، وتوعد سبحانه وتعالى المخالفيـن الطامعين فى أموالهم بأشد العذاب ، فقال عز وجل : « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا » ( النساء 10 ) .. أما ازدراء اليتيم فهو آية من آيات التكذيب بالدين ، يقول تبارك وتعالى : « أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ » ( الماعون 1 ـ 3 ) .
من جمال وكمال وثراء المنظومة الإسلامية فى الوفاء بحق الوالدين ، أنها لم تكتف بالوصايا العامة والمتعددة بالإحسان إليهما ، وإنما تبقى عين الإسلام منصرفة إلى حفائر الزمن ومرجعة عليهما إذا ما فارقا الشباب وأدركهما الوهن والشيخوخة .
نرى القرآن المجيد فى واحدة من جميل آياته فى رعايـة الوالدين ، يشير إلى مَرّ الزمن عليهما ، فيقول سبحانه وتعالى : « وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا » (الإسراء 23 ، 24 ) .
هذه التقفية بعد عبادة الله بالإحسان بالوالدين قد لفتت إلى جوار مقتضيات الوفاء بعامة ـ إلى حق الشيخوخة أو الكبر فى أن تلقى المزيد من البرّ والرعاية والعناية ، دالة بذلك كله على أن التكافل الاجتماعى ملمح أساسى فى المنظومة الإسلامية ، فى كنفها الفرد مرعىّ ومكفول نطفةً وجنينًا ، مولودًا ورضيعًا ، مفطومًا وطفلاً ، صبيًا وشابًا ، زوجًا وزوجةً ، والدًا ووالدةً ، ولا غرو .. فالإنسان المسلم هو رسالة الإسلام وهديته إلى الدنيا إلى ما شاء الله .
قال العارفون :
الرياضة والمجاهدة تذهبان الخبائث .
ومن استرسل مع طبعه فهو من جنود الله .
وفى القرآن المجيد :
« إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ » ( التوبة 111 )
فنعم بالله .
زر الذهاب إلى الأعلى