النقيب مرقص باشا حنا أنشودة الوطنية (الأخيرة)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 27/12/2021
ـــ
بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
سمعته مصر ، يلقى خطبة رنانة بدائرة محرم بك بالإسكندرية ، عقب الإفراج عنه وزملائه . قال : « فى صباح يوم 23 ديسمبر سنة 1921 اصطف عدد عظيم من الجنود الإنجليز ، ومن حولهم الأوتوموبيلات المسلحة والغير مسلحة ، واقتحموا بيت الأمة دار صاحب الدولة سعد زغلول باشا وكيل الأمة المصرية ، ليقبضوا على دولته ، وليبعثوا به إلى المنفى الذى أرادوا القذف به هو وإخوانه إليه ، وفى الوقت نفسه قبضوا على باقى أعضاء الوفد بالطريقة عينها ، وقد أمر سعد باشا بأن يمتنع الدفاع عن الأمة المصرية ، وبأنه سيقوم هو بأداء الدفاع عن الأمة وأن للقوة أن تفعل به ما تشاء .
« وفى فجر يوم 24 يوليو سنة 1922 فى الساعة السادسة صباحًا أحاط العساكر الإنجليز ، بكل منزل من منازل أعضاء الوفد السبعة وأمروا بإبدال الأتوموبيلات لأعضاء الوفد بالأتوموبيلات المسلحة ، وكان ذلك أمام منزل حمد باشا الباسل ، فجاءوا به فى أتوموبيل مسلحة معَدة لحمل العساكر ، وسيقوا إلى المحاكمة ، وكان كل دفاعهم محصورًا فى كلمة واحدة هى أن قالوا للإنجليز : « لكم أن تحكموا علينا وليس لكم أن تحاكمونا » قالوا للمحكمة العسكرية الإنجليزية : إنكِ غير مختصة بمحاكمتنا ، فإن كان هناك إجرام فموقفنا لا يكون أمام المحاكم الإنجليزية ، بل أمام المحاكم المصرية ، فإذا حكمتم علينا فليس لنا إلاّ أن نقبل حكم القوة باسمين .
« فكان جزاء الأعضاء السبعة أن حُكم عليهم بالإعدام على تهمة لا أساس لها ولا صحة . أقرر ذلك بصفتى عضوًا فى الوفد المصرى وبصفتى نقيبًا للمحامين ، وبصفتى شاهدًا على أعمال الوفد .
« ولما جاءوا لأعضاء الوفد المصرى بمنطوق الحكم ليُتلى عليهم فى ثُكنة قصر النيل ، وإذا هو قاضٍ بالإعدام صاحوا جميعًا « فلتحيا مصر » .
« وقد قادونا إلى سجن قره ميدان ، الذى يسجن فيه القتلة والمجرمون واللصوص ، ووضعونا فيه ونفّذوا علينا نظام السجون .
« ولبثنا مدة فى هذا السجن ولم نحزن فى الواقع أثناء إقامتنا فيه ، إلاَّ لحادث واحد أثّر فى أفئدتنا كل التأثير وهو نقل الرئيس الجليل سعد باشا من سيشل إلى جبل طارق منفردًا .
« هذا وقد ظللنا فى السجن إلى أن سقطت الوزارة الثروتية .
« ذلك أيها السادة هو تاريخ وجيز عن إقامتنا فى ألماظة أو إن شئتم تاريخ وجيز لإثم صغير من آثام ثروت باشا ، وإذا أردنا أن نسرد الحوادث الثروتية لطال بنا المقام » .
ومع أن موقف الوفد الرافض أن يكون تشكيل لجنة الدستور بالتعيين ، وأدى انتماء مرقص حنا للوفد إلى رفض الاشتراك فى لجنة غير منتخبه ، إلاَّ أن هذا الموقف لم يكن تهوينًا من قيمة الدستور ولزومه لحقوق الأمة ، لذلك فإن نقابة المحامين ــ وكانت غالبيتها وفدية ــ لم تعط ظهرها للواجب عليها ، فشكلت لجنة لدراسة مشروع الدستور ، من الأساتذة مرقص حنا نقيب المحامين ، وعبد الرحمن الرافعى ، ومحمد يوسف ، وأحمد رمزى ، وإدوارد قصيرى ، وعبد الحليم البيلى ، ولم يكتف المحامون وعلى رأسهم النقيب مرقص حنا بموقفهم النقابى ، ولكنهم ناضلوا سياسيًّا لمناوأة الملك فؤاد فى محاولته المستميته لاكتساب صلاحيات سياسية أكبر تجاه البرلمان والوزارة .
واحتجت نقابة المحامين على هذه الاجراءات بعريضة وقع عليها جميع المحامين .
وتعرضت نقابة المحامين لتشكيل معسكر قوى ضدها وضد الوفد ، وضد انعقاد جمعيتها العمومية فى 12 ديسمبر 1924 لمطالبة الملك بدعوة البرلمان بسرعة الانعقاد قبل ختام المدة التى تأجل إليها علاج الحالة التى أدخلت البلاد قسرًا ، والنظر فى التصرفات غير الدستورية التى قامت بها وزارة زيور بموافقة القصر لحل البرلمان ودعوة المندوبين الثلاثين لانتخاب مجلس النواب الجديد يوم 24 فبراير 1925 ، ومعنى ذلك إجراء الانتخابات على درجتين طبقًا لأحكام القانون القديم ، مع أن البرلمان كان قد ألغى هذا القانون .
وفى الأزمة الدستورية الثانية (1928) حشد الأحرار الدستوريون والاتحاد الوطنى ــ ضد المحامين الوفديين ، وقدموا توفيق دوس مرشحًا لموقع النقيب ، ولكن فاز المرشح الوفدى محمود بسيونى ، وفاز القبطى كامل صدقى بمنصب الوكالة .
موقف المحامين فى تأييد الثورة ، جعلهم مستهدفين ، ورام البعض أن ينسب لنفسه دورًا فى إضراب المحامين ، فادعى الهلباوى أنه كان طرفًا فى الحض على الاضراب ، ولم يكن ذلك صحيحًا ، وكان مرقص حنا هو صاحب هذا الدور الوطنى بلا منازع .
بقى أن أقول للقارئ الكريم أننى قد صادفنى لاحقًا ما يثبت أن الآنسة عايدة ، حرم مكرم عبيد ، كانت الأخت الكبرى لأخوات أخريات ، وصار لزامًا أن أشير أيضًا إلى أنه برغم أن الكلمة المسموعة والمكتوبة ــ هما عدة المحامين فى المرافعات وفى المذكرات ومحاضر الجلسات ــ إلاَّ أن معظم تراث المحامين يذهب للأسف بددًا ، لقصور التدوين عن حمل نص العبارات فضلاً عن جرسها وموسيقاها ، وعدم توفر المذكرات المتفرقة ، وعدم طبع أو تداول محاضر الجلسات ؛ مما يتعذر بل يستحيل على الباحث أن يرصد ما قدمه المحامى فى عالم المحاماة ، ولم ينج من هذا المصير إلاَّ القلة القليلة التى حرصت على التأليف وعلى طباعة ونشر مؤلفاتها وبحوثها ومذكراتها وطعونها ، فحفظت لها أن تكون متاحة فى كل وقت للمحامين وللمشتغلين بالقانون .
هذه الصعوبة هى التى دعتنى إلى بذل جهد جهيد فى جمع المادة والأخبار فى مظانّها عن هذه القامة الوطنية الفذة : النقيب مرقص باشا حنا ، أنشودة الوطنية فى زمانه ، وفى تاريخ المحاماة .