النقيب مرقص باشا حنا.. أنشودة الوطنية (2)
بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 8/11/2021
برغم المكانة السامقة ، والتاريخ العريض ، والشخصية الفذة ـ للأستاذ النقيب مرقص باشا حنا ، إلاَّ أنه لم يأخذ نصيبه المستحق فى البحوث والدراسات والكتابات ، ولعل السبب يرجع إلى قلة الجهد الذى بذله من أرادوا تتبع سيرته ومكانته ، فقد نقل كل منهم عن الآخر فتكررت ذات المعلومة دون تقديم جديد ، بل نلاحظ أن المراجع المشار إليها متكررة ، وأن من كتبوا لم يكلفوا أنفسهم بالرجوع إلى تلك المصادر لقراءة ما ورد فيها ، اكتفاءً بالنقل عمن كتب . وهذه صورة مؤسفة .
وقد وضعوا على رأس قائمة المراجع ، كتاب « المحاماة فن رفيع » للأستاذ شوكت التونى ، وكنت قد قرأته أكثر من مرة أيام أن كنت طالبًا فى كلية الحقوق ، وبعد تخرجى ، ولا أذكر أننى قرأت فيه كتابة لافتة عن مرقص باشا حنا ، فرجعت إلى الكتاب ، وأعدت تصفحه ورقة ورقة ، فلم أجد به عن هذا العلم الكبير سوى سطور معدودة ، وإن كانت مهمة ، وضمن أسماء أخرى ، حين تحدث عن « مدرسة العلم » فى المحاماة ، والحديث عن منهج تلك المدرسة وليس عن مرقص حنا بخاصة ، ولو كان من كتبوا قد رجعوا بأنفسهم إلى ذلك الكتاب لما وضعوه على رأس قائمة المراجع .
من أجل هذه الملحوظة وغيرها ، مضيت أبحث وأنقب فى كافة المؤلفات التى قدرت أن تكون قد تعرضت لهذه الشخصية الفذة ، فوجدت أن أهم المراجع الوافية الدقيقة لم يلتفت إليها من كتبوا عنه ، منها مجلدات مذكرات كاتم أسرار ثورة 1919 ، وعقلهـا المدبر : عبد الرحمن بك فهمى ، ومنها مذكرات الوفدى الكبير فخرى بك عبد النور ، عن ثورة 1919 ، فوجدته قد أفاض فى مواضع عدة متفرقة ، عن مرقص باشا حنا .. المحامى ، والنقيب ، والوطنى ، والسياسى .. أنشودة الوطنية .
ووجدت بغيتى أيضًا فى سلسلة مؤلفات الأستاذ النقيب عبد الرحمن الرافعى ، سواء عن ثورة 1919 ، ومقدماتها ، وما تلاها .
ووجدت أيضًا إشارات هامة إلى هذه الشخصية الفذة فى المجلد الأول من مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل فى السياسة المصرية ، وفى حوليات مصر السياسية لأحمد شفيق باشا ، كذلك فيما كتبه الدكتور عبد العظيم رمضان فى الجزء الأول من مجموعة « تطور الحركة الوطنية فى مصر » ( 1918 ، 1936 ) ، وأخيرًا ما نوهت به عنه ، فى كتابى «رسالة المحاماة» .
وللقارئ الكريم أن يعلم أننى عنيت بذكر هذه المراجع لسببين ، أولهما حق مؤلفيها الذين استفدت مما كتبوه ، وثانيهما أن أُيَسر للراغبين فى استكمال الكتابة عن هذه الشخصية الفذة ، فما أكتبه هنا لن يوفيه حقه ، ويكفينى أن أحرّك أشواق المصريين لمعرفة تاريخ وعطاء هذه الشخصية الشامخة ..
قد عرفنا أن من القمم التى بلغها ، أنه أول وآخر من فاز بثقة المحامين فى موقع النقيب خمس دورات متصلة ، ثم فى دورة سادسة ، وبما يشبه الإجماع بين المحامين ، مسلمين وأقباطًا ، تقديرًا لصفحته النقية الناصعة ، وعلو كعبه فى كل باب .
لم تكن المحاماة وظروفها بأمس ، كما هى وظروفها اليوم ، بل مرت خلال عهود متصلة بمدارس فى الأداء إتفق كل منها مع زمانه .
عن المرافعة فى المحاماة ، تحدث نجمها الكبير الأستاذ أحمد رشدى فى احتفالية إنشاء المحاكم الأهلية , فقال : « المرافعة رسالة يؤديها المحامى عن صاحب الحق إلى من يملك إقرار الحق أو إنشاءه ؟ إذن لا مناص من أن يتزود المحامى ـ لتبليغ هذه الرسالة ـ صدق اليقين وقوة البرهان ، وأن يرى كيف يمهد سبيلها إلـى الأسماع ثم إلى القلوب بلطف الأداء ورفق العبارة وحسن الخطاب .. فالمرافعة ليست بذلك هى الفصاحة وحدها ، ولا هى العلم بالقانون وحده ، ولكنها قبل أن تكون غزارة علم وزخرف كلام ، يجب أن تكون حول الدعوى سياسة ويقظة واستبصاراً ، وحول الدليل حذقا فى الأداء ولباقـة فى إيراد الأمر وإصداره » هكذا تكون المحاماة لمن أراد ! .
هـذه المبادى العامـة لا خلاف عليهـا ، ولكـن المحاماة نفسها ـ ومنها المرافعات ـ قد مرت عبر مدارس مختلفة ، ابتداءً بمدرسة الخطابة اللغوية البيانية المعتمدة ـ فقط ـ على الجزالة والبديع والمحسنات اللفظية من جناس وطباق … إلخ ، وكان ذلك هـو الطابع الغالب فى بواكير المحاماة حين كان لا يشترط فى المحامى ـ بل والقاضى ـ ان يكون حاصلاً على إجازة الحقوق ، ومع تقدم الفكر القانونى وتوافر الأعداد المناسبة لإمداد القضاء والمحاماة بحاصلين على دراسات قانونية ، إنتقلت المرافعات ومعها المذكرات والأحكام نقلة نوعية احتل فيها القانون مكانه ، ووجدت الحجة القارعة والبرهان الفنى مكانهما فى المرافعات وفيما تقره وتأخذ به الأحكام .. هذه المرحلة لم تكن مرحلة واحدة ، وإنما تداخلت فيها حلقات مثلتها أجيال تبعاً لابتعادها التدريجى عن المحسنات اللفظية البحتة واقترابها من القانون وعناصره وحججه وأسانيده مع أسس الاستدلال وقواعده وفنونه . »
وما دمنا نتحدث عن مرقص باشا حنا ، فإنه واجب علينا أن نعرف أنه كان عَلَمًا من أعلام « مدرسة العلم » فى المحاماة ، والتى سادت بعد مدرسة الفصاحة والذكاء ، ومدرسة الحقوق التى خرجت القضاة ووكلاء النيابة والمحامين .
بدأت مدرسة العلم تأخذ مكانتها وتتقدم فى المحاماة بتخرج أفواج من المتعلمين الذى درسوا الحقوق وتاريخ الحقوق ، والقوانين وتاريخها فى أيام الرومان ، وفى الشريعة الإسلامية ، وحقوق الأمم والإنسانية فى الدفاع والحرية والعدالة .
وكان من أعلام هذه المدرسة : مرقص باشا حنا ، ومصطفى النحاس ، وعلى ماهر ، وأحمد لطفى ، وتوفيق دوس ، ووهيب دوس ، وأحمد رشدى ، وأحمد ماهر ، وكامل مرسى ، وعازر جبران ، ونجيب الهلالى وغيرهم ، هؤلاء الذين انتقلوا بالمحاماة نقلة نوعية كان لها أثرها الضافى المرجو أن يمتد .