النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة ( 6 )
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 7/2/2022
ــــــــ
بقلم : الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين
بقدر ما كان ما يتعلق بالتحفظات على سياسة المرحوم بطرس باشا غالى ــ بقدر ما كان سهلاً ، ومعالجته ميسورة للدفاع ، إلاّ أن ظرف سبق الإصرار المشدد ـ والموجب للإعدام ، كان المعضلة الكبرى . مرجعها أنه يشترط لقيام سبق الإصرار ، مرور فترة زمنية بين قرار الاغتيال وبين تنفيذه ، أما الشرط الثانى ، فهو الأهم ، أن يثبت أن الجانى قد توفر له الهدوء والاستقرار النفسى ، والخروج من سورة الغضب ، وأنه من ثم قد أُتيح له أن يفكر فى الجريمة على مهل ، ويقارن بين عوامل الإقدام و عوامل الإحجام . هذا هو العنصر الأهم فى سبق الإصرار ، وكانت صعوبة الصعوبات ، فى نفى هذا عن الوردانى ، أنه قد مضت عشرة أيام كاملات بين قرار القتل الذى اتخذه الوردانى فى 10 فبراير ، وبين واقعة الاغتيال فى 20 فبراير ، وهى مدة أكثر من كافية طبقًا للمجرى العادى للأمور ــ لأن يتخلص الجانى من ضغوط سورة الغضب والإنفعال ، وأن يتاح له التفكير فى هدوء ورويه .
هذه المدة الطويلة ، من الصعب إن لم يكن من المستحيل ، إثبات أن الجانى ظل هائجًا طوالها تحت سورة الغضب ، دون أن يهدأ أو تتاح له فرصة التفكير بهدوء وروية ، والموازنة بين عوامل الإقدام وعوامل الإحجام .
فى القضايا العادية تكون هذه الفترة ما بين دقائق أو ساعات قليلة قد يسهل إثبات أن الجانى كان لا يزال تحت وطأة الغضب والإنفعال ، واستحال عليه التفكير بهدوء وروية ، ومن ثم لا يتوافر فى حقه ظرف سبق الإصرار .
كانت إذن فترة الأيام العشرة ـ هى المعضلة والتحدى الكبير أمام محمود بك أبو انصر ، لنفى ظرف سبق الإصرار ، وبتجنب الإعدام الوجوبى !
كان على الأستاذ محمود أبو النصر أن يثبت للمحكمة أن نفس الجانى : إبراهيم الوردانى ، لم تهدأ قط طوال هذه الأيام العشرة ، وأن ثورة غضبه وانفعاله لم تبرد ، ولم يتح له وقد سيطر عليه الغضب الغضوب ، أن يفكر التفكير الهادئ المتروى ، وهو مناط محاسبة الجانى على ظرف سبق الاصرار .
مهد الأستاذ محمود بك أبو النصر ، وصولًا إلى هذه الغاية ، بشخصية الوردانى نفسه ، وما عرف عنه من المزاج العصبى ، حتى أنه لخلاف بسيط بينه وبين أخته ، حاول الانتحار غضبًا واحتجاجًا ، لولا أن منعه الموجودون فى اللحظة الأخيرة .
أخذ النقيب الضليع ، على رأى النيابة ، أنها تعتبر أن مجرد عزم المتهم على فعله ، كافٍ لتحقيق سبق الإصرار ، دون ما نظر إلى الظروف الضاغطة المحيطة ، والتى تحرم المتهم من الهدوء والتروى والبعد عن الانفعال ، والتفكير فى الجريمة تفكيرًا هادئًا يوازن بين عوامل التردد وبين الاستقرار ، وبين الاقدام على الجريمة ، أو الإحجام عنها .
طفق الأستاذ محمود بك أبو النصر ، يستشهد بأقوال الشهود الذين اتفقوا على أن المتهم طيب الخلق بصفة عامة ، حَسن التعامل ، ولكنه يعانى من مزاج عصبى ، يهيمن عليه حين يُستثار ، والخروج منه يحتاج إلى وقت ، وإلى انحسار الظروف والاعتبارات المهيجة أو المثيرة ، وهدوء الأحوال على نحو يعود به إلى حالته العادية التى كانت محل ثناء ممن عرفوه ، وأدلوا بشهاداتهم أمام المحكمة .
طفق الأستاذ محمود بك أبو النصر ، يقول للمحكمة فى مستهل مرافعته : « إن المتهم الواقف بين أيديكم ـ له نشأة خاصة شب عليها وتمكنت من نفسه من يوم تفتحت للدراسة عيناه .
« فى المتهم « مرتبة » تغذت بها روحه ، وتشبعت حواسه ، بتلك المبادئ السامية ، فكونت عنده عقيدة خاصة فى فهم معنى الواجب وما يقتضيه ، من حيث هو إنسان أولاً ، ومن حيث هو مصرى ثانيًا ..
« عقيدة تمكنت فى قلبه حتى صادفت شعارًا ومذهبًا ودينًا ، فاذا كان الإسلام دين محمد ، وكانت النصرانية دين عيسى ، فمحبة الوطن إلى حد الجنون به دين إبراهيم الوردانى أولا وقبل كل شىء .
« للمتهم مزاج عصبى يكاد يشتعل نارًا بملامسة الحوادث حتى كان من شأنها فى نظره أن يلحق ببلاده العار والدمار ، وهو ما لا أظنكم صادفتموه فى قضية أخرى .
« لم يرتكب المتهم ما ارتكبه ملتمسًا لنفسه نفعًا أو ساعيًا وراء شىء قل أو جل من حطام هذه الدنيا ، كما تشاهدون فيمن يتقدم إلى عدلكم كل يوم من أولئك الذين يعيثون فى الأرض فسادًا أو يضربون فى عرض البلاد نهبًا وسلبًا ، وإنما ارتكبها مدفوعًا بعوامل أخرى لا يختلف اثنان فى مقدارها شرفا وقوة تمكنها وشدة تأثيرها فيه .
« فى هذه القضية أشرف المتهم على وطنه المحبوب من سماء تلك العقيدة فرآه فى تيار الحوادث مضطربًا كالسفينة فى بحر لجى .
« رأى الأهواء تتغالب عليه والأيدى ممتدة اليه تكاد تختطف ما بقى من مال واستقلال .
« رأى ذلك واعتقد ان المرحوم بطرس باشا هو صاحب اليد الفعالة فى جلب هذه الأخطار، فاندفع بلا روية ولا تبصر إلى الايقاع به ، منعًا لما كان يتوقعه من الخطوب الجسيمة غير التى كانت فى الماضى .
« لم يجن عليه قصد الجناية بالذات ، ولكنه تمثل فى ذهنه ما يعلمه كل مصرى من أن المرحوم بطرس باشا لم يتول الأمر فعلاً منذ عُيّن رئيسًا للنظار ، أو عضوًا فى الوزارة ، بل تولاه فعلا من يوم عُيّن وكيلاً للحقانية ؛ فكان عين نوبار ومسمع رياض ويد مصطفى (فهمى) على التعاقب .
« لم يقف مواقفه التى أثارت عليه الرأى العام وعينته بالذات لرميه أول رام ، إلاَّ بقوة ما كان تحت وطأته من مشاعر الغضب لوطنه .