المنصات الرقمية في قفص الاتهام
مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني
•••••••••••••••••••••••••••••••••
هل يمكن أن تتحوّل المنصة الرقمية من مجرد وسيط تقني إلى فاعل مشارك في الجريمة؟ وهل تسقط عنها الحيادية حين تصبح خوارزمياتها أداة تحريض وتوجيه؟ من يُسأل عندما تُستخدم المنصة لترويج الكراهية أو بث الذعر أو تسهيل الاتجار بالبشر؟ أهي المستخدم وحده، أم أن للمنصة نصيبًا من المسؤولية؟ وإذا كان القانون قد تطور ليطال الفعل المادي والمعنوي في صورته التقليدية، فهل آن الأوان لأن يطال الذكاء الاصطناعي نفسه حين ينحرف عن الحياد، أو يُستخدم عمدًا في الإضرار بالمجتمع؟!
تلك التساؤلات لم تعد “خيالات افتراضية”، بل تحوّلت إلى واقع يومي تعكسه الوقائع والأحكام والدراسات الجنائية الحديثة. فالمنصات الرقمية باتت في قلب الحدث الإجرامي، سواء بكونها وسيلة، أو بيئة حاضنة، أو حتى محرضًا صامتًا عبر آليات الترويج والتوصية الخوارزمية التي تعيد إنتاج المحتوى وتكثيف انتشاره، دون مراعاة لمضمونه أو أثره. وتزداد خطورة ذلك حين تصبح الخوارزمية ذاتها أداة” تحريض غير مباشر”، من خلال توجيه المستخدم نحو محتوى متطرف أو مضلل، أو مضاعفة انتشاره لمجرد جدله أو تفاعله، رغم العلم بمخاطره. وهنا تنتقل الخوارزمية من كونها أداة حسابية إلى “فاعل معنوي مُحرّض”، ما دام تصميمها أو تشغيلها قد تم مع العلم باحتمال النتائج الإجرامية.
بل إن المنصة قد تُسأل كشريك” بالاتفاق الجنائي”، متى ثبت وجود تفاهم مُسبق أو مستتر بينها وبين صانع المحتوى أو مجموعة من المستخدمين على استغلال خدمتها في الترويج للمواد المحظورة أو تنفيذ أنشطة إجرامية، ولو تم ذلك بلغة ترويجية أو عبر صيغ إعلانية ظاهرها مشروع وباطنها منحرف. كذلك، قد تتحقق صورة الاشتراك بالمساعدة، إذا قدمت المنصة أدوات تقنية، أو دعمت حسابات مشبوهة رغم التحذيرات، أو امتنعت عن التدخل رغم قدرتها الواضحة على وقف الجريمة أو تقليص انتشارها.
ولا يقتصر الحديث هنا على المسؤولية الجنائية المباشرة، التي تفترض وجود ركن مادي ومعنوي، بل يمتد إلى الصور غير المباشرة من المسؤولية، كالمساعدة والتحريض والاتفاق، بل وحتى المسؤولية الجنائية المعنوية-القصد الجنائي- للشخص الاعتباري، والتي أصبحت محل اهتمام تشريعات عديدة، ترى في المنصة كيانًا اقتصاديًا واجتماعيًا يجب أن يُساءل متى أهمل أو استغل سلطته التقنية في الإضرار بالمجتمع. وتتعدد صور هذه المسؤولية تبعًا للصلة بين المنصة والفعل الإجرامي، وإن كانت قد أتاحت المجال عمدًا لتحريض واضح، أو امتنعت عن اتخاذ تدابير تقنية أو قانونية لمنع انتشار محتوى محظور رغم توفر القدرة على ذلك، فإنها تُسأل. بل إن بعض النظم القانونية بدأت في التأسيس لفكرة مساءلة المنصة على أساس “النية التقنية المبيتة”، حيث تُفهم نية التصميم، وسلوك الخوارزمية، ومدى استجابتها للتحذيرات، كقرائن على التواطؤ أو التحريض.
وتتغير دقة المساءلة تبعًا لطبيعة المنصة ذاتها؛ ففي المنصات المفتوحة كـ”فيسبوك”، التي تسمح بالنشر العلني، تتوافر فيها عناصر الركن المادي للجريمة بشكل أوضح، خاصة مع تيسّر إثبات العلانية، واتساع أثر التحريض، إلى جانب ما تمتلكه من أدوات رقابية وخوارزميات يمكنها اكتشاف المحتوى الضار. أما المنصات المغلقة كـ”واتساب”، التي تعتمد على التشفير الكامل، فتُثار بشأنها عقبات تتصل بصعوبة إثبات العلم بالمحتوى، ما لم يكن هناك إشعار موثوق، أو سلوك تقني يدل على التواطؤ أو التيسير.
كل هذا يضع المنصة في مواجهة مسؤوليات متشابكة: جنائية واعتبارية، مباشرة وغير مباشرة، ويستدعي إعادة التفكير في كيفية مساءلتها ليس فقط عن الفعل الإجرامي بذاته، وإنما عن مناخ ” التحريض التقني” الذي تتيحه، سواء عن علم أو عن تقصير. ولذا تتنوع الجزاءات المتصورة، من الغرامة، إلى الإيقاف المؤقت، إلى المساءلة المدنية، بل وحتى الحل الكامل، حين تتكرس المخالفة في صميم بنيتها وسياساتها.
هكذا، تتغير نظرة القانون من منصة كمجرّد وعاء تقني، إلى كيان فاعل مسؤول، في ظل التفاعل المعقّد بين البشر والخوارزميات. ويصبح من غير المقبول أن تظل هذه المنصات في مأمن من المساءلة، وهي التي باتت ترسم ملامح الرأي العام، وتؤثر في تشكيل العنف “الرمزي والمادي”، وتعيد إنتاج الخطر بصمت بارد. إن الوضع القانوني الجديد يستدعي مساءلة رقمية عادلة، تُراعي خصوصية التكنولوجيا دون أن تُحصّنها ضد المحاسبة، وتُخضع الفضاء الافتراضي لمبادئ العدل والردع، حماية للمجتمع، ووقاية للإنسان. والله من وراء القصد.