المعجزة وموقف الإسلام منها

المعجزة وموقف الإسلام منها

نشر بجريدة الشروق الخميس 3/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الحديث عن المعجزات والأديان حديث مستمر، تختلط فيه حجج الصدق، وهي معجزات يسرها الله سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله، تعزز دعوتهم للإيمان بالله، واتباع سننه، وهي دعوات قوبلت دائمًا بالصد والإنكار والتكذيب، فكانت هذه الحجج برهانًا لهم للمنكرين والمكذبين ــ على أن ما أتوا به بعث وتكليف من الله عز وجل.

واختلطت أيضًا في هذا التناول، معنى المعجزة. فما يعد معجزةً لأنه خارج مقدور وإمكانيات البشر، ليس بمعجزة على الله عز وجل، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. ولذلك كانت حجج الصدق برهانًا على البعث، لأنها ليست في مقدور البشر، وإنما هي آية على صدق التكليف الإلهي للرسل والأنبياء.

وما كان الأستاذ العقاد ليترك هذا الباب في كتابه الضافي: « التفكير فريضة إسلامية »، فخصص له فصلاً استهدف فيه بيان موقف الإسلام من المعجزة، والإطار الذي وضعها فيه، وهو يبدأ الفصل ببيان ما قيل في شأن الفلك، حين سأل نابليون بونابرت العالم الفلكي الشهير

« لابلاس »: أين يجد مكان العناية الإلهية في نظام السماوات ؟ فأجابه لابلاس بأنه لا يجد مكانًا لما يسمى العناية الإلهية في ذلك النظام.

ولست بحاجة إلى إثبات أن رد العالم الفلكي فيه اندفاع وعجلة، وفيه سطحية، ومصادرة على تأمل واجب ليستقيم الجواب على أي نحو شريطة أن يحمل أسانيده.

بيد أن الإنسان أيًّا كان نصيبه من المعرفة ـ يتعلم من القرآن المجيد أن المعجزة الإلهية حاضرة في خلق السماوات والأرض تحدث بها فقال:

« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » (البقرة 164)

فكل ما نراه في الكون معجزة تلفت النظر، وتدعو إلى العجب، ولكنها المعجزة التي يعمل العقل لاستيعابها وفهمها.. وليست المعجزة التي تبطل عمل العقول.

وهذا هو باختصار موقف الإسلام من المعجزات..

فالمعجزة التي تلتقي بالعقل موجودة، يلتقى بها من ينشدها حيثما التفت إليها، ولكنها ليست المعجزة المسكتة أو التي تسكت الفعل وتبطله، بل هي المعجزة التي تدعوه إلى إعمال العقل والتأمل والتفكير..

والدعوة إلى هذا التأمل والتفكير دعوة قرآنية، صريحة وواضحة، منها ـ تمثيلاً لا حصرًا ـ قول القرآن المجيد: « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » (آل عمران 190، 191)

فالإسلام دين العقل، والتفكير فريضة فيه..

والمسلم يؤمن بالنواميس الكونية، وبأنها سنة الله في خلقه « وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً » (الفتح 23).

ولكنه يؤمن كذلك بإمكان المعجزة لأنها ليست بأعجب مما هو حادث شاهد أمام الإبصار والبصائر، وليست هي بمحتاجة إلى قدرة أعظم من القدرة التي تشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم وساعة.

وقد تُسمى المعجزة في عرفه بخوارق العادات، وكان من خوارق العادات عند الأقدمين أن تبلغ الحركة ما صارت تبلغه من السرعة في التجارب العصرية، التي جاوزت سرعة الصوت مرات، وقامت الأدلة العديدة عليها، ولم يعد مستحيلاً عقلاً أن يتم في ثانية ما تعود أن يتم في سنة !

فلا استحالة في خوارق العادات، وأمثلة ذلك عديدة، ومن يدعى استحالتها فعليه أن يأتي بالدليل والبرهان..

*     *     *

وإذا كان العقل الإنساني لا ينفي بالدليل المقنع وجود العقل الأبدي، فإنه ليس له أن يجزم باستحالة شيء مما يستطيعه ذلك العقل الأبدي من العلم بالأبد كله أو من القدرة على الإيحاء به إلى من يشاء أو من القدرة على خوارق العادات.

والإسلام إنما يضع المعجزة في موضعها من التفكير والاعتقاد، فهي ممكنة لا استحالة فيها على الخالق المبدع لكل شيء، وهي معجزة لنا وفقًا لقوانيننا البشرية وليست معجزة له، فإنما أمره سبحانه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.

ومن لا يؤمن بالآيات الواضحة في الأرض وفي السماء، فلن تزيده الآية الخارقة إلاَّ ضلالاً على ضلال.

وعقيدة المسلم في الغيب وجملة الغيبيات، أنها شيء علمه عند الله، ولكنها لا تناقض العقل ولا تلغيه.

بقى أن أقول لكم، إن الله عز وجل أراد لنبوة الإسلام؛ أن تكون نبوة فهم وهداية، لا تعتمد على إفحام العقول بالخوارق المفحمة المسكتة، وإنما هي نبوة هداية أراد الله تعالـى لهـا أن تخاطـب وتفتــح « العقــول » و« البصائر »، لا أن تفحمها وتقعدها عن النظر والتأمل والتدبر والتفكير والفهـم.. هذا المعنى الفارق توجيه قرآني صادر بأمر رباني صريح إلى النبي أن يبدى للناس أنه ليس إلاّ بشراً رسولاً اصطفاه ربه لحمل وأداء الرسالة ـ « قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً.»؟ ( الإسراء 93 ).. هذا الأمر الرباني ببيان جوهر الرسالة المحمدية، ورد في معرض نقد تعلق الناس بالخوارق الحسية التي ثبت بتجارب البشرية أن مآل أثرها إلى الانقضاء والانطمار.. في ذات سورة الإسراء، تنبيه واضح إلى الفارق الجوهري بين نبوة هداية، وبين التعلق الضرير بالخـوارق الحسية !.. تقول الآيات الحكيمات: « وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَـا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَـى فِـي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ».. في تماحي أثر الخوارق، وتلمس المكابرين التعلاّت والأسباب للتملص منها، يقول القرآن المجيد: « وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ » ( الحجر 14، 15 ).. فليست الخوارق مما يغنى في دعوة المكابر المعاند المفتون، ولا هي أداة الدعوات لمواجهة ما يأتي به قابل الأيام !!

لذلك أراد الإسلام لنبوة القرآن أن تكون نبوة فهم وهداية تدعو بكتابها المبين إلى النظر والتأمل والتفكير، وليست نبوة استطلاع وتنجيم وخوارق وأهوال.. النبي ليس منجمًا ولا عالمـًا بالغيب، وليست النبوّة نبوّة سحر أو رؤى أو أحلام أو قراءة طوالع وأفلاك.. « قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » ( الأعراف 188 ).. لذلك حرص رسول القرآن أن ينحى عن أذهان الناس سمعة المعجزة المسكتة عندما جاءته ميسرة يوم كسفت الشمس وظن الناس أنها كسفت لموت ابنه إبراهيم، فأبى عليهم ذلك، ونبههم إلى أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفـان لمـوت أحد ولا لحياته.. ومع تعدد ما ورد في المأثورات عن المعجزات والآيات التي صاحبت مولد محمد عليه السلام وطفولته، إلاّ أن عنايته الكبرى كانت بلفـت انتبـاه الناس إلـى معجـزة القـرآن وما ينطوي عليه من آيات ومدد لا ينقطع.

والقرآن المجيد، حجة الإسلام الباقية إلى يوم الدين، خاطب العقل كما خاطب الوجدان والضمير، في منهاج عميق دعا إليه حتى في مسائل الإيمان والعقيدة.. « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » ( آل عمران 190، 191 ) هذا التأمل المتعبد الفاهم الواعي، هو قوة دفع ذاتية بآلية دافقة لا تنقطع.. تكفل للمتأمل فيها ديمومة المدد والأثر الفاعل في الهداية والاستمساك بالعروة الوثقى إلى ما شاء الله رب العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى