المشتقات المالية ودورها في أزمة الرهن العقاري عام 2008 في ظل الغياب التشريعي

بقلم الدكتور/ محمد طرفاوى محمد المحامى

لقد كانت أزمة عام 2008 من أكبر الازمات الاقتصادية في العصر الحديث وترتب عليها عدة أمور خطيرة سواء في فكرة الاستثمار او مراقبة الاقتصاد، فقد أكدت هذه الازمة حقيقة مفادها أن الحلول الاقتصادية لا تكفي وحدها بل يجب أن هناك معالجات تشريعية لتلك الحلول بل يجب أن يكون هناك تشريعات لتنظيم كافة الأمور الاقتصادية لاسيما الحديثة منها، وقد ظهرت المشتقات المالية لقروض العقارات في ثمانينيات القرن الماضي وقد أدت بشكل مباشر وفي فساد واضح إلى الأزمة العالمية عام 2008 ليس لأنها أدوات سيئة بل لأنها لم تنظم تشريعياً على الوجه الامثل وهنا يظهر دور القانون في الدفاع الاستباقى ضد الازمات، والسطور التالية هي جزء من كتاب أحاول فيه توضيح مدى أهمية القانون في مواجهة الازمات الاقتصادية بل والعمل استباقياً لتفاديها.

للوقوف على حقيقة تسبب المشتقات المالية في أزمة الرهن عام 2008 يجب أن نقوم بسرد تاريخي واقتصادي في ذات الوقت، يحدد كيف تطورت القروض وما ترتب على استخراج المشتقات المالية منها، فكما ذكرنا سلفاً تطورت القروض العقارية في عهد روزفلت كونه كان وسيلة لمواجهة الكساد الكبير، وبحلول أربعينيات القرن الماضي حدث تطور هائل في ملكية العقارات بالولايات المتحدة نظراً لانتشار القروض الإسكانية.

اعتمد روزفلت في سياسته لتطوير عمليات التمويل العقاري على قروض طويلة الاجل تمنحها البنوك مقابل عائد، حيث يتم دفع من 10 إلى 20% من قيمة العقار ويتم تقسيط باقي المبلغ والفوائد، ويكون عادة قرضاً مضموناً بالعقار ذاته فإذا تقاعس المقترض عن سداد القرض يتم استيفاء المبالغ المترصدة في ذمته من العقار ذاته إذ يتم الحجز عليه البنك المقرض.

نجحت التجربة وتعاظم عدد الامريكيين الممتلكين للعقارات، وظل الامر على هذا النحو وهو العلاقة الثنائية فقط (المقترض والمقرض) حتى ثمانينيات القرن الماضي وفي هذا الوقت عانت الولايات المتحدة من تضخم مفرط أدي إلى تدهور صناعة القروض الإسكانية (SAL)، فقد كان هناك فلسفة واضحة وهي فلسفة 3: 6:3 التي تعتمد على الإقراض بفائدة والاقتراض بفائدة وربح الفارق ولم تكن كافية وقتها فنظراً للتضخم أصبحت عوائد القروض العقارية لمودعي الاموال غير مجدية وهربت الأموال لاستثمارات أخري وكان من اللازم إيجاد حل لهذه المشكلة.

وهنا ظهرت أولى المشتقات المالية لعمليات القروض العقارية، حيث سمع الكونجرس الأمريكي بعمليات بيع القروض، وذلك من خلال قيام البنوك بإقراض المقترضين الأموال ثم يقوم البنك ببيع القرض للغير(MPS) وهو أن يقوم البنك بتجميع أوراق القروض الإسكانية وبيعها لمستثمر آخر مقابل هامش ربح على أن يقوم المستثمر بتجميع الأقساط واستلامها وبذلك يربح البنك على المدى القصير ويربح المستثمر على المدى الطويل، وعادة ما يكون المستثمر بنك أكبر.

وبذلك تدخل طرف جديد بالمعادلة فلم تعد مقرض ومقترض بل أصبحت مقرض ومقترض وبنك مستثمر اشتري القرض من المقرض، ولم يكتفي المصرفيون بذلك بل ابتدعوا فكرة جديدة وهي أن يتم تجميع القروض الإسكانية في مجموعات وتقسيم هذه المجموعات إلى أسهم صغيرة ثم يتم بيع السهم بالتجزئة للغير فيكون المستثمر وسيطاً ليعيد استثمار المبلغ والمستثمر هو الفرد الذي قد يكون في ذات الوقت مقترضاً أيضاً وهو أمر في غاية العجب، ولا أخفيكم سراً لقد أصابني العجب والإعجاب بالمصرفيين أصحاب هذه الابتكارات، على كل حال سمي هذا المشق المالي ب (NPS) وهو نوع من الاوراق المالية المستمد أصلاً من قرض عقاري، وقد أصبحت بذلك أحد أنواع الأوراق المالية المقننة عملاً وإن لم تكن مقننة قانوناً.

واستمر الامر على هذا الحال، إلى أن بدأت بعض العقبات ومنها عدم سداد القروض (Default on loan )، وهنا انقسم المستثمرون إلى أقسام حسب المخاطرة فمنهم من يريد عائد كبير مقابل مخاطرة كبيرة، ومنهم من يريد عائد عادى مقابل استثمار مضمون، فتم تقسيم المجموعات إلى عدة أنواع ودرجات طبقاً لكل عميل، فحسب العميل – المقترض – يتم تحديد نسبة المخاطرة والعائد فيما سمي ب (CDO) وهو فرذ المجموعات الخاصة بالقروض العقارية طبقاً لمخاطر السداد.

وهنا ظهرت أول تجاوز كنتيجة لهذه المشتقات، وهي عدم التدقيق في مدى انطباق الشروط الخاصة بالقرض العقاري على المقترض فقد أصبح هناك من يتحمل المخطرة وهو المستثمر، وهو بداية المشكلة فأصبح منح القرض العقاري أسهل، وهنا ظهرت بداية جديدة وتطور جديد.

شركات التأمين، رأت شركات التأمين أن هذا المجال سوق كبير ويجب أن يتداخلوا في هذه الأرباح الخيالية، فاقترحت شركات التأمين وأهمها شركة (AIG) أن يتم التأمين على الاستثمارات الخاصة بقروض الإسكان خاصة ما يخص مخاطر هذه القروض وذلك مقابل نسبة من العائد، وهنا ظهر المشتق المالي الجديد (CDS) أو ما يعرف ب (Credit Default Swaps) وهو التأمين على مخاطر عدم السداد أو فشل الاستثمار مقابل نسبة من العائد وفي حال فشل الاستثمار تقوم شركة التأمين بتعويض المستثمر بقيمة الخسارة، وظهر هنا مصطلح ( Credit Rating) أو التصنيف الائتماني، وهو قيام أشخاص مختصين بتصنيف طبيعة المخاطر على الاستثمار لدرجات محددة ويتم ذلك من خلال شركات تسمى ( Credit Rating Agencies) أو وكالات التصنيف الائتماني، ومن أهم الشركات في هذا المجالStandard & Poor’s (S&P): وتعتبر الأكبر والأقدم ، و Fitch Ratings: وكانت هذه الشركات من أهم أسباب الأزمة لما بدر منها من تلاعبات في تصنيف القروض وكانت محوراً للتحقيق في لجان الكونجرس فيما بعد.

مثال لدرجات التصنيف الائتماني بشركات التصنيف الائتماني:

الفئة Standard & Poor’s Fitch Ratings

أعلى درجة (أمان تام) AAA AAA

درجة استثمارية (آمن) BBB- وما فوق BBB- وما فوق

درجة مضاربة (عالي المخاطر) BB+ وما دون BB+ وما دون

حالة التعثر (إفلاس) D D / RD

كانت العقارات تتطور بشكل متسارع فمع التطور الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي وتضاعف أسعار العقارات، وقد أدى ذلك إلى التساهل بشكل أكبر في منح القروض فتم الاستغناء عن أهم شروط ومعايير الحصول على قروض اسكانية وتوسعت فيما يسمى بالقروض عالية المخاطر Subprime Loans وذلك لضمان المخاطر من قبل المستثمرين وشركات التأمين، وقد أدى ذلك إلى وجود قروض كثيرة لم يتم سدادها وهو ما أدى لنتيجة تلقائية وهي ازدياد عدد العقارات المصادرة لعدم سداد القروض، وهو ما زاد العرض في الوقت الذي انهار فيه الطلب لعدم وجود قروض بل وتوقفها، وعدم وجود قابلية الشراء بالكاش وهو ما أدى إلى اكتشاف الفقاعة العقارية.

كانت الفقاعة العقارية من أهم أسباب الانهيار المباشر عام 2008 فقد كانت العقارات تتزايد بطريقة غير منتظمة كما أنها ليست فعلية، وهو ما زاد حدة الانهيار، وقد تزامن ذلك مع ظهور بعض الممارسات الغربية فقد ظهرت مشتقات مالية تتعلق بالمراهنة على فشل أو نجاح استثمار ما، وهنا ظهرت مصائب أخري كشفتها لجان تحقيق الكونجرس ومنها أن البنوك كانت تتوسع في منح القروض عالية المخاطر وتربح من منح تلك القروض، وتقوم في ذات الوقت باستخدام أموال بيع القروض بالمراهنة على الخسارة في هذا الاستثمار فتربح من ذات المال مرة أخري، فيما سمي بيع على المكشوف (Short Selling)وكانت هذه الأمور من أسوأ الفضائح التي كشفتها لجان التحقيق .

نتج عن عدم سداد القروض ومصادرة العقارات وعرضها للبيع كثرة المعروض وقلة الطلب، وكما قلنا ظهرت الفقاعة، وهنا ظهرت مصيبة جديدة وهي أن الاسعار عندما انهارت أصبح الملتزمين بالدفع في موقف خسارة فادحة فكيف يسدد قرض لعقار قيمته وقت الحصول على القرض مليون دولار على سبيل المثال وانخفضت قيمته السوقية إلى سبعمائة الف دولار ما الذي يدعوه إلى الاستمرار في السداد، فعندما يصبح متعثر أو لا يتم السداد ستتم مصادرة العقار وهنا هو الرابح وليس البنك، وعندما يتم البيع يقوم بالتقديم على قرض جديد نظراً لانهيار سوق الأسعار، وهنا توقفت البنوك الكبري عن شراء القروض عالية المخاطر، وهنا سقطت اول حلقات الدومينو البنوك الصغير وجهات التمويل العقاري لأن القروض لم تباع والقروض لم تسدد كذلك وتضاعفت القروض المتعثرة ما أدى لانهيار بنوك صغيرة ومؤسسات تمويل عقاري بل وإفلاسها.

أين شركات التأمين أليس هناك (CDS)؟ نعم موجود ولكن المشكلة هنا قانونية لم يكن هذا النوع من المشتقات المالية قانوني فلا يوجد تنظيم تشريعي لهذا النوع من المشتقات المالية وبالتالي لا رقابة ونتيجة لذلك توسعت شركات التأمين في منح هذا المشتق دون رقابة ودون وجود غطاء نقدي على أساس عدم وجود رقابة عليه وكذلك استحالة حدوث انهيار شامل، لم يكن أحد يتوقع ما حدث من انهيار.

بدأ الانهيار بشكل متدرج وغير ملموس ففي مارس عام 2008 أعلن بنك Bear Stearns إفلاسه وقام بنك جي بي مورجان بمحاولة انفاذ الأسواق بشرائه مع وجود ضمانات من الفيدرالي الأمريكي، ولكن كان الوقت قد فات ولم يعد هناك مفر من الكارثة التي بدأت في سبتمبر 2008 بإعلان بنك ليمان برازر (Lehman Brothers)، وهو الاسم الذي ارتبط بأكبر حالة إفلاس في تاريخ العالم، والشرارة الرئيسية التي فجرت الأزمة المالية العالمية عام 2008.

ويجب أن نقف هنا عند هذه المشتقات، ذكرت سابقاً أنني اصبت بالذهول والاعجاب من كثرة التفكير المالي وكيفية استخراج هذه المشتقات وطريقة عملها، ووجدت للحظة أن السبب ليس المشتقات السابقة ولكن الطمع، تمت إدارة القروض وتعظيم أرباح القطاع العقاري، ولكن التوسع في منح القروض عالية المخاطر وكذلك تشديد شروطها بعد مدة أي أن البنك كان يضع شروطاً ميسرة للسداد في بداية القرض ثم يتشدد في شروط السداد لتفشل لكي يراهن على فشلك ويربح ويصادر العقار ويبيعه ويربح فيربح من هنا ويربح من هناك وتخسر انت المواطن العادي لقد كانت كعملية نصب كبيرة نتجت عن طمع المؤسسات التي تسببت بطمعها في الأزمة المالية؛ ففي التقرير النهائي للجنة المشكلة من مجلس الشيوخ الأمريكي (Financial Crisis Inquiry Report) احتوى على أقسام خاصة حول كيفية استخدام مورجان ستانلي لمقايضات عجز الائتمان بالقروض العقارية (Credit Default Swaps – CDS) للمراهنة ضد سوق الإسكان، لقد كان البنك يمنح القرض ويعرف أن المقترض لن يدفع ويراهن على ذلك فيربح من القرض ويربح من المراهنة على عدم السداد بالبيع على المكشوف ما هذا!!.

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى