أصدر الأستاذ العقاد كتابه « المرأة فى القرآن الكريم » عام 1959 ، قبل خمس سنوات من رحيله ، وبديهى لم يكن هذا أول كتاباته عن المرأة ، فقد تعددت كتاباته قبل ذلك عنها ، ودارت هذه الكتابات حول المرأة فى الفكر والحياة ، وفى الفلسفة والمجتمعات ، بدأ بعضها فى خلاصة اليومية (1911) ، وفى الإنسان الثانى . أو المرأة (1912) ، وفى الشذور الذى أضيف إلى خلاصة اليومية (1915) ، وما جاء بها من إشادة بقاسم أمين الواجب على حواء أن تزجى إليه الشكر والعرفان ، لأنه أعتق المرأة المصرية وأطلقها من سجنها ، وانه لا يزال الفخر فى تحرير المرأة لقاسم أمين الذى اقتفى أثره من نهضوا بعده .
وكتب عنها فى « مجمع الأحياء » (1916) الذى أفرد فيه مساحة للمرأة لتتحدث فى مناظرة مع الرجل عن قضية علاقات الأزواج بالزوجات وحقوق الإناث . وكتب عنها فى مقالات شتى نشرت فى مجموعات « الفصول » (1922) ، و« مطالعات فى الكتب والحياة » (1924) ، و« مراجعات فى الآداب والفنون » (1926) ، ولم تخل مجموعة من هذه المجموعات من حديث عن المرأة فى جانب من جوانبها أو قضية من قضاياها ، وما كتبه فى مجموعة « المطالعات » عن رأيه ورأى المعرى فى المرأة ، وكتب عنها العديد من المقالات فى المجلدات الأربعة لليوميات .
وأصدر سنة 1945 كتابه « هذه الشجرة » وتضمن دراسة شاملة عن المرأة ، وقد أعيد طبعه عدة مرات ، وأعيد نشره سنة 1968 مع « الإنسان الثانى » ـ بعنوان « هذه الشجرة والإنسان الثانى » ، وكتب فصلاً فى « الفلسفة القرآنية » (1947) عن موقف القرآن الكريم من المرأة ، كما كتب عن « المرأة فى الإسلام » بكتاب « عبقرية محمد » (1940) ، ونحن نعرف بالإضافة إلى هذه الكتابات التى ترجمت عن اهتمامه بالمرأة ، بعض تجاربه الشخصية معها لم تكن موفقة ، أو تركت لديه ندوبًا كقصته التى طلب من الفنان صلاح طاهر أن يصورها فى لوحة وضعها وراء مخدعه « لتورتة » قد تكاثرت عليها حشرات , لتذكره دومًا بأن مثل هذا لا يُبكى عليه .
وقد يحمل هذا على الاعتقاد بأن هذا لا بد قد أَثَّر على موقفه من حواء , فهذا رد فعل إنسانى طبيعى .
وكتاب « المرأة فى القرآن » لا يعكس آراءه الشخصية , أو النظريات الفكرية والفلسفية ، وإنما رؤية وموقف القرآن الكريم .
وقد يكون ظاهر كتاب « المرأة فى القرآن » لمن يتعجل أو لا يتعمق , أنه ليس مناصرة للمرأة وتحريرها أو الدفاع عنها , إلاَّ أن هذه النظرة المتعجلة أو الظاهرية سرعان ما تنحسر لدى استكمال القراءة والتأمل , ليتضح أن الكتاب التزم أولاً بالتعبير عن موقف القرآن الحكيم من المرأة , لا عن رؤية شخصية , وأنه ينحل فى النهاية إلى دفاع عن المرأة فى أجمل وأقوى صورة .
فقيمة الكتاب الأهم, أنه يرفع عن الإسلام شبهة أنه عائق يحول دون حقوق المرأة , أو أنه يضعها فى منزلةٍ دنيا أو أدنى من الرجل , أو ينكر عليها صفاتها ويصادر عليها .
الواقع أن الكتاب دفع بقوة هذه الشبهة , دفعًا يزيح ما وقر فى ذهن بعض المتعصبين ـ أن مكانة المرأة فى الإسلام أدنى من مكانة الرجل .
قصة غواية آدم
تعرضت من أكثر من عام ، لقصة غواية آدم فى الجنة ، التى اعتاد الناس ـ نقلاً عن الإسرائيليات ـ نسبتها إلى حواء ، وأنها وحدها هى التى استمعت إلى الشيطان ، وأنها التى أغوت آدم أن يأكلا من الشجرة التى نهاهما الله أن يقرباها .
ومردود هذه القصة ـ فيما أوردت بمقال نشر بمجلة حواء فى 13/6/2015 ـ والتى تسللت من الإسرائيليات إلى بعض الروايات ، ولم يرد فيها حديث نبوى صحيح أو حسن ، إنما يرجع إلى ما ورد فى سفر التكوين بالعهد القديم الذى عرض للقصة مرتين ، فأما ما ورد بالإصحاح الثانى فلا شىء فيه عن هذه الغواية المنسوبة لحواء ، بل جاء به أن النهى كان لآدم « وأوصى الرب الإله آدم قائلاً عن جميع شجر الجنة تأكل أكلاً . وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها . لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت » ( التكوين 2 : 15 ـ 18 ) ، ولكن قصة الغواية وردت بالإصحاح الثالث من سفر التكوين ( 3 : 1 ـ 24 ) ، وإليها ترجع الإشارة الموجزة التى وردت بالعهد الجديد بالإصحاح الحادى عشر من كتاب كورنثوس الثانى والإصحاح الثانى من تيموثاوس .
ولكن رواية القرآن الحكيم أنصفت حواء وبرأتها من تهمة غواية آدم ، وقد وردت الرواية فى ثلاث سور : البقرة والأعراف وطه ، ولا أثر فى أى منها لهذه التهمة ، بل جاءت على النقيض تحمل صك براءة حواء من هذه المظنة .
فورد بسورة البقرة « وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ » ( البقرة الآيتان 35 ، 36 ) ـ ونصها واضح فى أنه قد أزلهما الشيطان وأن الزلل كان قسيمًا مشتركًا بينهما .
وقد رجعت إلى ما كتبه الأستاذ العقاد عن هذه القصة فى كتابه « هذه الشجرة » الذى صدر سنة 1945 قبل أربع عشرة سنة من كتاب « المرأة فى القرآن » فوجدت أنه لم يورد من القرآن ، إلاَّ ما ورد بسورتى البقرة والأعراف ، وفاته فيما يبدو ما ورد بسورة طه . واستطرد من رواية سفر التكوين ، دون فحص كاف آنذاك ، إلى تحليل ما جُبِلَتْ عليه طبيعة حواء من « غواية » ، ومع أنه لم يبن تحليله على رواية العهد القديم ، ولكن على التحليل البيولوجى النفسى ، إلاَّ أنه يحسب للأستاذ العقاد أنه بدقته وحرصه وأمانته ، قد عاد إلى استكمال هذا النقص فى كتابه « المرأة فى القرآن » (1959) ، فأضاف ما ورد بسورة طه إلى سورتى البقرة والأعراف ، وأكد أنه ليس فى السور الثلاث إشارة إلى ابتداء حواء بالإغواء ، وأضاف أن « مروية » العهد القديم تسللت ضمن الإسرائيليات إلى كتابات بعض الأقدمين .
نحن إذن أمام مفكر وعالم موسوعى ، غايته الحقيقية التى ينشدها لا سواها ، وأنه لدى اكتشافه ما فاته من سورة طه ، ومعاودة إعمال النظر والتأمل ، لم يجد أى غضاضة فى أن يسجل ما اكتمل به فحصه وتدقيقه ، وأن يضمنه كتابه « المرأة فى القرآن » .. وهو وإن كان قد استطرد فيه إلى « الغواية »، فإنه نسبها إلى الطبع من واقع ما فطرت عليه حواء ، لا إلى قصة الغواية فى الجنة .