المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (5)

المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (5)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 6/9/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يروى لنا المرحوم الأستاذ صبري أبو المجد، في مجلداته الضافية عن « سنوات ما قبل الثورة » ــ جانبًا عن قضاة مصر ومحاميها، كونهما مفخرتين لمصر، ويبدأ بإبراهيم الهلباوي. ليسجل له أن تاريخ المحاماة في مصر، بل في العالم كله، لم يعرف محاميًا ارتفع بالمحاماة ورفعته المحاماة إلى القمة، كما كان الأمر بالنسبة لإبراهيم الهلباوي. كما أن تاريخ المحاماة في مصر بل في العالم كله، لم يعرف محاميًا تحمّل كل ألوان الظلم والاضطهاد وقسوة الحياة بسبب اشتغاله بالمحاماة كإبراهيم الهلباوي.

وقد تراءى له ذات يوم أن من واجبه كمحام أن يقبل مهمة المدعى العمومي في قضية دنشواي التي جرت أحداثها في 13 يونيو 1906، فكانت الغلطة الكبرى التي جرّت عليه لقب « جلاد دنشواى » في منظومة شاعر النيل حافظ إبراهيم عن دنشواى. لم يستطع الهلباوي بعد موقفه هذا الذي لم ينسه المصريون له، بينما نسوا موقف بطرس باشا غالى رئيس المحكمة التي قضت بإعدام أربعة، وبعقوبات عنيفة على الباقين، وعضو المحكمة أحمد فتحي زغلول. لم يستطع الهلباوي أن يشهد بعدها أي احتفال عام، أو محاضرة عامة، وقد كان شباب المصريين يتعقبونه في كل مكان بالهتاف ضده، ويطلقون وراءه « الحمام » إشارة لأحداث دنشواى، وحورب الرجل محاربة عنيفة حتى كاد أن يغلق مكتبه بعد أن أحجم أرباب القضايا عن اللجوء إليه رغم معرفتهم بقدراته الفائقة كمحامٍ فذ.

أمضى الهلباوي حياته يحاول التكفير عن هذه الغلطة، وتتابعت القضايا الوطنية التي تبناها وترافع فيها، وإذا به أبرز المحامين الوطنيين في الدفاع عن إبراهيم الورداني في قضية اغتيال رئيس النظار بطرس باشا غالى. ويكون موقفه فيها من الروعة حتى عاشت كلماته في ذاكرة الناس لأكثر من قرن من الزمان.

بعد أن أنهى الأستاذ الهلباوي مرافعته عن إبراهيم الوردانى، المتهم باغتيال رئيس النظار بطرس باشا غالى، لأسباب سياسية لا طائفية، وأدرك بحسه وفراسته العالية في المحاماة، أنه لا مناص من الحكم على الجانى بالإعدام، فهذا حكم الشرع والقانون والعدالة على السواء، ومن ثم حرص أن يؤبنه قبل إعدامه، وأن يودعه وداعًا فيه عبرة وعظة.

من حصافته أنه اتجه بكلمته إلى المحكمة، بينما كان قلبه ولسانه ــ فيما روى بمذكراته ــ نحو المتهم، فالكلمة الأخيرة في مذكرة دفاعه المكتوبة، تشهد بما كان يملأ نفسه من الإكبار والإجلال لذلك الشاب الذي ضاع ضحية اعتقاده بأنه يخدم وطنه. وقف الهلباوي يقول للمحكمة:

لقد أمضيت خمسًا وعشرين عامًا في المحاماة دون أن أسائل نفسي لماذا اختير للمحامي رداء أسود، بينما اختير للقاضي شعارٌ أخضر يزين به صدره. والآن فقط أدركت هذا السر، أدركته والقلق يعذبني بسبب هذه القضية، أدركته وأنا أشعر بما يشعر به المتهم نفسه، وأحس بما تحس به أمه وأخته من الفزع والاضطراب، وهما في الواقع في حالة حداد، الحداد الذي يتمثل في هذا الرداء الذي ارتديه بين أيديكم، أنتم الذين تمثلون بشعاركم الأخضر الرحمة والعطف، بل إن هذا اللون ليوحى إلى نفوسكم أن الإنسان مهما عظمت خطيئته فعندكم من الرحمة ذخيرة لا تنفد. أنتم في الواقع: رسل الرحمة على الأرض، رسالتكم شبيهة برسالة القديسين الذين يضرعون إلى الله أن ينشر فوق البشر رحمته وغفرانه، وأنتم من غير شك تدركون أنه من العسير على الإنسان أن يكون دائمًا بمنجاة من الخطأ أو تكون حياته كلها نقية كحياة الملائكة، فإن توسلنا إليكم أن ترحموا هؤلاء البشر الذين يتردون في الخطيئة، فلا تضيعوا توسلاتنا هباء، بل تقبلوها كما يتقبلها الله الذي انتخبتم بإرادته لأداء هذه المهمة المقدسة التي تؤدونها. ثم أضاف..

« الآن لى كلمتان أوجههما إلى المتهم بين يدى القاضى: الأولى، أنى إذا كنت قاسيًا عليه في نعته فلأنى خاضع لقانون ليس دائماً ملتئماً في أحكامه مع ما توحى به الذمة والضمير، لأنه مضطر في أحوال كثيرة ـ رعاية لسلامة المجتمع البشرى وصيانته ـ أن ينظر نظرًا آخر في تعريف الحـلال والحـرام، ونحن المحامين أحق الناس بالأدب والخضوع لهذا القانون، فإذا قبل الدفاع عذرك أيها المتهم وعرضه على قاضيك، فعليك أنت أيضاً أن تتقبل قبولاً حسنا عذر الدفاع فيما خالفك فيه من عقائدك السياسية. الثانية: أنى إذا أنزلتك منزلة المجرمين العاديين وطلبت لك الرحمة والغفران، فلأن ذلك واجب أيضاً يقتضيه الدفاع، ولكن إذا أبت نفسك أن تعيش بين السلاسل والأغلال، وأن تعيش معاملاً معاملة الأشقياء وقطَّاع الطريق، فارفع نفسك عن هذا السبيل، واقبْل نبال الموت بقلب البواسل، فالموت آت لا راد له إن لم يكن اليوم فغدًا..

اذهب مودعًا منا بالقلوب والعبرات.

اذهب فقد يكون في موتك بقضاء البشر عظة لأمتك أكثر من حياتك.

اذهب فإن قلوب العباد إذا ضاقت رحمتها عليك فرحمة الله واسعة ! »

أٌعْدِمَ الشاب القاتل، وتوفي الهلباوي بعد ثلاثين عامًا، بيد أن كلماته تلك عاشت في ضمير المحاماة والمحامين، آية في البلاغة والتأثير، دون أن تفقد حق المنطق والعدالة. لا بأس به أن يطلب للمتهم الرحمة ولكنه يدرك أنها بعيدة المنال في هذا المشهد، ومن ثم كانت كلمة الوداع حاملة رسالة بليغة في كل ما أثارته القضية التي أقضت مصر، من اعتبارات !