المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (2)
المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (2)
نشر بجريدة الأهرام الإثنين 16/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ظني أن الأستاذ المحامي الكبير الأشهر لم يحسن الدفاع عن نفسه في سقطة دنشواي، وهذا دال على قاعدة يدركها أصحاب الباع في الفكر والحياة والمحاماة، ولكنها فاتت الأستاذ الهلباوي تحت ضغط الآثار المتراكمة المتزايدة لتلك السقطة، والتي زادها تعليقه اللاحق بأن
« الحضور في جلسات المحاكمة لم يوجهوا انتقادًا له على ما أبداه من الدفاع « المتين » في القضية، فالمتانة ضده وعليه » !!.
حاول الهلباوي جاهدًا تبرئة ساحته من جراء قبوله ومرافعته ضد الشهداء من فلاحي دنشواي، فتارةً يقول في مذكراته، إن الحكومة اختارته لأنه أكبر المحامين الموجودين سنًّا وأقدميةً، وهذه ذريعة متهافتة، فرغم أن قانون المحكمة المخصوصة ينص على أنه « يختار البوليس محاميًا لإثبات التهمة » ــ إلاَّ أن هذا النص نص عام ولم يتطلب شروطًا في المحامي الذي يختاره البوليس لإثبات التهمة ناهيك بأن التهمة هنا من المحتل ضد أبناء الوطن، فضلاً عن أن هذا كله لا يلزمه شخصيًّا بأن يقبل هذا الاختيار، بل له كل الحق ــ بل الواجب ــ في رفضه.
ويبدو أن الأستاذ الهلباوي شعر بما في هذه الذريعة من تهافت، فتداركها يقول إن الإنذار السري البريطاني إلى مصر الرسمية جاء من بين شروطه أن يجلس في كرسي الادعاء أكبر محامٍ في مصر. وهذه بدورها تعلة أكثر تهافتًا، فلا هو يتلقى أوامر من المحتلين، ولا مصر الرسمية طالبته بشيء، ومن حقه بل من واجبه الاعتذار إذا طالبته، ولم يرد في الأخبار أنها طلبت منه ذلك !
وتارةً قال الهلباوي تخفيفًا من وطأة التورط إنه « أعتق مقدمًا خمسة عشر متهمًا من طلب عقوبة الإعدام لهم حسبما طلب قاضى الإحالة »، وليس هذا عذرًا، ولا مدعاة فيه للافتخار !! ومن ثم لا يخفف وطأة ما تورط فيه !!
والأدهى من ذلك كله، أن يحاول الهلباوي حاول مهاجمة الشيخ عبد العزيز جاويش في سياق دفاعه عن نفسه في « دنشواي »، بقالة إن الخصومة تولدت بينه وبين عائلة الشيخ جاويش لوقوفه للدفاع عن خصمهم في قضية مضاربة، مما حدا بجاويش لأن يفتح النيران عليه في جريدة « اللواء » حينما وصفه بأنه « جلاد دنشواي » لكونه كسب قضية ضد إخوته.
وفات الهلباوي أن الذي دمغه بأنه « جلاد دنشواي » ــ إنما هو شاعر النيل حافظ إبراهيم في ماليته الدامية عن الشهداء عام 1906، بينما أول كتابة للشيخ جاويش كانت بعد ذلك بسنتين، وتحديدًا في مايو 1905.
ومن اللافت أنه لم يتلق مقابلاً لهذه السقطة، بينما حصل كل من بطرس غالي وفتحي زغلول على المقابل لاشتراكهما في هيئة المحكمة، فصار الأول رئيسًا للنظار، وترقى الثاني إلى وكيل وزارة الحقانية بعد أن كان رئيسًا لمحكمة القاهرة الابتدائية الأهلية، ورغم مآخذ كانت مأخوذة عليه !
ومع أن الأستاذ العقاد لم ينبر للدفاع عن الهلباوي فيما كتبه عنه ونشر في كتاب « رجال عرفتهم » ( كتاب الهلال أكتوبر 1963 )، إلاَّ أنه أعمق من حللوا شخصيته، ووضع يده على سر انفلاتاته، والتي كان أخطرها إنفلاتة دنشواي.
أخطر ما قد يتعرض له المحامي، وغير المحامي، أن يتيه إعجابًا بنفسه، والأخطر أن يغره ــ وقد يستهويه ــ الإبانة عن قدرته على الإقناع والبيان، فيأخذه التيه « بالقدرة » عن وجوب مراجعة الموضوع. دائمًا ما أحذر نفسي في المحاماة من هذا الانسياق، فالموضوع أولى دائمًا بالاعتبار، والقدرة على البيان تتآكل، ولكن مواقف الحق والصواب تعيش طويلاً، وقد يسطرها التاريخ.
أعود إلى الأستاذ العقاد الذي قرأ الهلباوي ونفسيته قراءة أقل ما يقال فيها إنها متعمقة، أورد أنه يمكنك أن تلخصه في عبارة واحدة، هي أنه رحمه الله « ذلاقة اللسان لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها ». ومن هذه الذلاقة المتعجلة، فيما كتب، كان يؤخذ على الهلباوي كل ما هو مأخوذ عليه.
كان فيما يضيف ــ أشهر المحامين بين الفلاحين بلا استثناء، وكان من آيات شهرته أن النصابين كانوا يساومون طالبي شراء « لسان » الذبيحة، بأنها « والله ولا لسان الهلباوي».. وسُمِعَت شهرته
كاتبًا كما سُمِعت شهرته محاميًا. ثم أدركته آفة التعجل، فتحول في الوطنية إلى خطة « الاعتدال »، وكان شجاعًا بل هجّامًا، يذكر له الأستاذ العقاد أنهم يوم حوصروا في دار الجريدة، وتوالت المخاطر والهتافات العدائية، وأوى البعض خوفًا واحتياطًا إلى حجرات الدار، أبى الهلباوي إلاَّ أن يقتحم الجمع خارجًا من الدار في إبان الهياج غير مبالٍ بما تلقاه من اللكم والإيذاء !
كان رحمه الله هجّامًا لا يتردد، رأى الأستاذ العقاد أنه « نابغة من نوابع عصره لا مراء ».. كان يسلم من كثير مما يؤخذ عليه لولا تلك الحيوية التي أفلقته وباعدت بينه وبين الصبر والاستقرار ! ظنى أن طبع الهلباوي الهجّام، والتيه بالذات، دفعاه إلى سقطة دنشواى دون تفكير يحسب الحساب ويختار الموقف، فزل هذه الزلة، رحمه الله وغفر له.
أما بعد، فقد آثرت أن أبدأ بما عليه، لأتفرغ بعد ذلك لما له، وهو كثير محسوب له في عالم الوطنية والمحاماة.