المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (1)
المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (1)
نشر بجريدة الأهرام الإثنين 9/8/2021
بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
يمكنك أن تقول مطمئنًا إن الأستاذ إبراهيم الهلباوي هو أول أصحاب الصيت العريض جدًا في عالم المحاماة، لم يبلغ صيته أحد، ويمكنك أن تسجل له مطمئنًا أنه أبلغ المترافعين طُرًا، وملك المرافعات الشفهية بلا منافس، وبلغ من صيته أنه كان يتردد بين أعيان المال، وأعيان الجنوح أيضًا، أنه يستطيع أن يقتل القتيل وأن يأتي بالهلباوي، وسُميت إحدى محطات الأتوبيس بشارع منيل الروضة على اسمه، تسمع كمساري الأتوبيس ينادي: محطة الهلباوي، وأنت تستطيع أن تستشهد على أثره وشهرته وبلاغته ومرافعاته في عالم المحاماة، بأن نابغة المحاماة الأستاذ الكبير مصطفي مرعى، يروى ـ وقد روى لي شخصيًا ـ أن الهلباوي هو سبب عشقه للمحاماة، ويروى أن والده قد اتهم جورًا ضمن ثأريات القبائل في جناية قتل لأنه كبير عائلته وعمدة مطوبس من أعمال محافظة كفر الشيخ الآن، وأحد مراكز مدينة دسوق، وكان مصطفي مرعى صبيًا في نحو الحادية عشرة، يذهب إلى المحكمة متعلقًا بجلباب أبيه، ويأبى أن يترك يده حين يودع القفص، فيمد يده إليه من خلال القضبان خوفًا من أن يأخذوه منه، وروى لي الأستاذ مصطفي مرعى أنه لم يخفف هلعه على أبيه في تلك الجلسة، إلاَّ سماع جلجلة صوت إبراهيم الهلباوي وقوة عباراته وهو يترافع مرافعة مشهودة عن أبيه، توجت بالحكم ببراءته، فذاب مصطفي مرعى عشقّا في إبراهيم الهلباوي، وعشق المحاماة من عشقه لهذا المحامي الفذ، فدخل حينما شب كلية الحقوق، وصار علماً كبيرا من أعلام المحاماة، وظلت صلته ممدودة بإبراهيم الهلباوي إلى أن فارق الحياة عام 1940.
ومع هذا كله وغيره، فإنني قاومت نفسي لأكتب عن الهلباوي، لأن سقطته بالمرافعة عن الادعاء ضد شهداء دنشواي سقطة من عمل الشيطان لا تغتفر، وقد بذل كثيرًا للتكفير عنها حتى آخر يوم في حياته، إلاَّ أنها ظلت تنغص عليه حتى آخر أيامه، وقد روى لنا الأستاذ يحيى حقي، في مجموعته الرائعة خليها على الله، وهو خريج حقوق القاهرة دفعة 1925 التي تخرج فيها أيضًا الأستاذ توفيق الحكيم وأبى الأستاذ النقيب عطية عبده ـ رحم الله الجميع. روى لنا يحيى حقي أن شهرة الهلباوي كانت مضرب الأمثال، وأنه كان تلميذ الأفغاني وزميل سعد زغلول، وأنه كانت قد مضت سنوات طويلة على مرافعته المشئومة عن الادعاء في دنشواي، حين أقيم سرادق سياسي، وخطب فيه الهلباوي، وأفاض في الحديث عن الوطنية الحقة والجهاد ضد الاحتلال، فخلب الألباب، واشرأبت إليه الأعناق وقوطع بالتصفيق والهتاف إعجابًا بلغته وحضوره وإلقائه، حتى أنهى خطابه مملوءًا بالثقة، وظن أن الدنيا قد صالحته، وفي تلك اللحظة، هتف صوتٌ من آخر السرادق: يسقط جلاد دنشواي، وإذا بالسرادق ينقلب رأسًا على عقب، ويختلط الحابل بالنابل، ويهتف ضد الهلباوي جلاد دنشواي، من كانوا يتلقون خطبته بالإعجاب والإطراء!
والسؤال، لماذا إذن أكتب عنه ولدى ـ هذا التحفظ على سقطته المشئومة في دنشواي؟
لعل السبب الأول أن الأجدى من مصادرة الشخص، دراسته وإبداء جوانبه في موضوعية منزهة عن الهوى، وعن الإفراط والتفريط.
ولعل السبب الثاني، وربما الأول، أن الهلباوي لا يمكن تجاهله حين نتحدث عن المحاماة وأقطابها، فقد كان شيخ شيوخهم، وأشهرهم طرًّا، وله إلى جوار سقطة دنشواي تاريخ حافل بذل فيه أقصى مستطاعه للتكفير عن هذه الغلطة، إلا أن كثيرًا من مواقفه الأخرى جديرة بأن تعرف، وفاءً بحق التاريخ، وبحق الرجل في أن يكون الحكم له أو عليه من واقع دراسة موضوعية، لاسيما وهو علم الأعلام في المحاماة، لا تُذكر ولا يذكر الهلباوي، ولا يذكر الهلباوي دون أن تذكر المحاماة، وشهد له الأستاذ العقاد بأنه نابغة من نوابغ عصره بلا مراء.
لقد كتبت عنه مختصرًا في رسالة المحاماة، وله مذكرات ضخمة طبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1995، محققة بمعرفة الأستاذ الدكتور عصام ضياء الدين، وبديهي أن المذكرات تحمل وجهة نظر كاتبها، ويغلب عليها الطابع التبريري أو الدفاعي، إلاَّ أنها تبقى رغم هذا مصدرًا رئيسيًّا في حياة الهلباوي، والحياة السياسية في العصر الذي عاشه، ولعل أهم ما في هذا المجلد المقدمة الضافية التي كتبها المحقق الدكتور عصام ضياء الدين، وبذل فيها جهدًا محمودًا لتأصيل الأمور التي غلب عليها الطابع التبريري، وإبداء الخطوط المهمة في حياة الهلباوي إبداءً موضوعيًا مدروسًا، استعان فيه ـ فضلاً عن كتابه: الحزب الوطني والنضال السرى ـ بمؤلفات ومطبوعات مهمة جعلت المقدمة كيانًا قائمًا بذاته في التعريف بالهلباوي، أتبعها بتصدير وافٍ للمستشار عبد الحليم الجندي الذي كان له الفضل بدوره في الكتابة عن أعلام المحاماة في الشرق والغرب، وتميزت كتابته بالموضوعية والعمق وجمال البيان، أما الأستاذ العقاد فقد كتب عنه الخلاصة، أو البهريز، وهو عندي أول من تعرف على نفسية الهلباوي، ووضع يده على سرِّ ما انفلت إليه في حياته من انفلاتات، أشهرها ولاشك كان في قضية دنشواي، التي وجف لها قلب مصر!
والحديث موصول.