المحامى الأشهر إبراهيم الهلباوى(7)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 20/9/2021
ـــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين
توالى اضطلاع الهلباوى بالقضايا الوطنية ، بعضها ضد الاحتلال أو فيما لا يُرضى الإنجليز المحتلين ، وبعضها مما تضيق به الحكومة أو يضيق به الخديو ، هذا إلى جانب القضايا العادية التى كانت وكالاته فيها صدىً لشهرته الواسعة ، وإمكانياته التى جرت بها الحكايات ، ومع صعود نجمه ، انخرط مع الساعين إلى إنشاء نقابة للمحامين تكون مظلة لهم وتنظم شئونهم ، فطفق يحضر الاجتماعات التشاورية إلى جانب سعد زغلول ، ومرقس فهمى ، وعمر لطفى ، ونقولا توما ، ومحمد يوسف ، وأحمد لطفى وغيرهم ، حيث كللت مساعيهم بالنجاح ، وأُنشئت نقابة المحامين بمرسوم صدر فى أوائل مارس 1912 ، وفى أول جمعية عمومية للنقابة ، عقدت بذات العام ، انتخب الهلباوى ـ شيخ المحامين ـ بما يشبه الإجماع أول نقيب للمحامين .
كان النجم اللامع الحاضر دومًا فى معظم القضايا الكبرى ، قال عنه المستشار الجليل عبد الحليم الجندى : « لا يوجد فى بـر مصر من لا يعـرف الهلباوى أسطورة المحاماة ، وأول نقيب للمحامين .. تجلت بواكير الجد فيه ، وتلقيه عن مدرسة جمال الدين الأفغانى ، ودراسته وانقطاعهـا ، وموهبته الهائلة التى غطت كل شىء ، وبلاغته الأسطورية ، وقضاياه واضطلاعه بأخطر القضايا الوطنية ، فيما عدا هفوة قيامه بدور الادعاء فى قضية دنشواى » ، يقسط المستشار الجندى حقه فى المحاماة : « يراه فارسًا من فرسان العصور الوسطى ، ناله من اضطهاد الحكام ما نال أباه ، فأشرقت فى أزهريته الصلبة أشعة الشمس التى نشرها جمال الدين الأفغانى فى أرجاء الشرق .. الملمح الواضح فى المحامى الفارس إبراهيم الهلباوى ، ما اكتسبه من معارف ضخمة من منازلة الرجال ، وقوة احتماله فى الشدائد ، وصبره ودأبه وقـوة تصميمه ، قد تصافحت فى راحتيه المتناقضـات ، كان لا يحب هونًا ما ، ولا يبغض هونًا ما ، كمطلع الشمس فى صباح الربيع فى إشراقه ، أجرأ الناس فى تضحية نفسه ، شديد المحال ، شديد الانفعال ، حتى إذا تكلم باسم موكليه قاس حركاته وسكناته ، وأفكاره وعباراته بأدق مقياس عرفه العالـم ..! وواتته الدقـة الهندسية مع ومضات العبقرية ! لا حدود لجرأته ، ولا لحيويته ! اضطلع بالدفاع فى أخطر القضايا لأكثر من نصف قرن من الزمان ، وصار أشهر المشاهير فى عالم المحاماة » .
رآه الوطنيون يصول ويجول فى قضية إبراهيم الوردانى ، ويقيم الأدلة على أن دافع الاغتيال ـ مع تخطئته له ـ لم يكن طائفيًّا ، وطفق يعدد السياسات والقرارات التى جرى عليها ناظر النظار ، حتى امتلأت نفس الجانى سخطًا هو الذى دفعه لارتكاب جريمته ، وجدير بالذكر أن الأستاذ الكبير محمود أبو النصر أبدع فى نفى سبق الإصرار رغم طول الفترة التى سبقت ارتكاب الجريمة بعد ثبوت فكرتها ، لأن القرارات المخيبة للآمال تخللتها فجعلت تعيد للمتهم سخطه وغضبه الذى لا تتحقق معه حالة الهدوء والروية المشترطة لقيام ظرف سبق الإصرار .
لم يدرأ النزعة الطائفية فقط فى مرافعته بالمحكمة ، وإنما انطلق يكتب بأسلوبه المميز فى « المؤيد » دفاعًا عن الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط ، ويدعو إلى ضرورة نسيان كل المفارقات المذهبية ، وعدم النظر إلى غير الصفة الوطنية العامة ، وجعل يدعو الحكومة فى مقالاته لإعطاء الوظائف إلى مستحقيها أيًّا كان انتماؤهم الدينى .
ومثلما لجأ الوردانى إليه للدفاع عنه ، لجأ إليه الدكتور شفيق منصور المحامى للدفاع عنه فى قضية اغتيال السردار سير « لى ستاك » الذى اغتيل عام 1924 ، وقلب الإنجليز المحتلون الدنيا مهددين متوعدين مطالبين بالمعقول وغير المعقول ، حتى اضطر سعد زغلول رئيس الوزارة إلى الاستقالة .
اتهم الأستاذ الدكتور شفيق منصـور المحامـى ، بالضلـوع فـى اغتيـال السيـر « لى ستاك » سردار الجيش المصرى وحاكم السودان ، يوم 19 نوفمبر 1924 ، زامن ذلك تصاعد حركة الجماهير الغاضبة آنذاك فى السودان ، تهتف بوحدة وادى النيل : مصر والسودان ، وتألفت هناك حركة وطنية باسم « اللواء الأبيض » لدعم سعد زغلول فى مواجهة المحتل البريطانى للبلدين ، وتصاعدت الأحداث إثر اغتيال السردار أثناء عودته من مكتبه بوزارة الحربية قاصدًا بيته فى الزمالك .
بعد تشييع الجنازة الرسمية ، حشد اللورد اللنبى قوة عسكرية كبيرة ، اتجه بها إلى مجلس الوزراء ، حيث خاطب سعد زغلول بغلظة وخشونة بلا لياقة ، وسلمه إنذارين خاصين بالسودان ومن المحال قبولهما ، فعاود سعد زغلول تقديم استقالته التى سبق أن قدمها فى 29 يونيو 1924 ، رافضًا ما يلمّح به الإنجليز والخديو المؤتمر بأوامرهم للفصل بين مصر والسودان ، ولم تقبل يومها استقالته ، فعاود تقديمها بعد اغتيال السردار ، فقُبلت .
كانت الأجواء بالغة الاحتقان ، والغضب البريطانى فى قمة جموحه ، حين طلب شفيق منصور من الهلباوى الدفاع عنه ، ولم يتردد الهلباوى فى قبول القضية رغم كثرة المحاذير التى يحسب غيره حسابها ، وخاض الغمار لأداء واجب الدفاع عن المتهم ، غير هيَّاب !!
كان يعرف أنه لا نجاة من أحكام الإعدام ، كحال الوردانى ، ولكنه قَبِل الدفاع ليبدى للمحكمة وللرأى العام كلمة مصر والمصريين فيما يجرى عليهم من احتلال غاشم لا تحركه سوى أغراضه ، وقد أدى فارس المحاماة واجبه ، وترافع وأبدع كعادته ، وصدر الحكم المتوقع بإعدام المتهمين السبعة وعلى رأسهم المحامى شفيق منصور ، ونفذ الحكم عليهم فيما عدا عبد الفتاح عنايت الذى استبدلت عقوبته بالأشغال الشاقة المؤبدة بأمر ملكى ، ولكن خطى الهلباوى فى تبنى القضايا الوطنية أخذت تزداد ، متزاملاً وإياها مواقفه الوطنية ، والتأمت هذه المواقف مع انتخابه أول نقيب للمحامين فى ديسمبر 1912 .