المحاماة ومسئولية الحياة
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 16 / 5 / 2020
بقلم: رجائي عطية
يبدو أن اعتياد « الطلب » ، ولأنه محض طلب لا يفصل فيه المتقدم به ، قد فصله فى وجدان البعض عن الإحساس بالمسئولية .. فرغبات الناس ، ناهيك عن التي تسعى إلى التلبية ، لا تنفصم ولا يجوز أن تنفصم عن الإحساس بالواجب وبالمسئولية ، وفرز ما لا يجوز عما يجوز .. فليس كل ما يُرْغب يطلب .. بل إن الطلب قد يحمل بذاته أحيانا ـ ما يقلب المواجد أو يثير المشاكل أو يفاقمها !!
لم أفهم لماذا يطلب محامٍ يدافع عن أحد المتهمين فى قضية قتل ـ منع أحد شهودها من السفر ، ولماذا يتقدم بطلب إلى النائب العام لوضعه على قائمة الممنوعين من السفر بالمطارات والموانئ المصرية ؟!
لم تكف تبريرات الطلب للإقناع بجديته وموضوعيته .. فحق السفر والانتقال من الحقوق الدستورية التي لا تجوز المصادرة عليها إلاَّ في حق متهم قامت دلائل جدية على مخاطر تنجم عن سفره إلى خارج البلاد ، وتوجد أيضا دلائل جدية وكافية على أن في نيته السفر فعلاً وإلى غير عودة .. فالسفر بنية العودة لا غبار عليه ولا بأس منه ، بل إن النيابة العامة تصرح أحيانا للمتهمين الممنوعين لأسباب جدية من السفر للخارج ـ تصرح لهم بسفرية أو أكثر طالما قامت لها أسبابها المقنعة وانتفت عنها نية الهروب وعدم العودة إلى الديار .
ولذلك لم أفهم علة طلب منع شاهد بعينه من السفر ، ولا تعلة أنه شاهد يرغب الأستاذ المحامي في سماعه بالمحاكمة ، ولم أستسغ « تحبيشات » هذا الطلب العجيب ـ بأنه قد ترددت أنباء عن عزم الشاهد على السفر خارج البلاد ، ولو قال الطلب هذا « التحبيش » وكفى لهان الأمر ، ولكنه زاد فقال إن نية السفر للخارج هى للهروب ـ يا ألطاف الله ! ـ من التحقيق حول ما أصدره من تصريحات !
لا يخطئ العاقل أن هذا تحرش غير مسئول ، وغير مأمون العواقب فيما نعانيه من احتقان لا يحتمل المزيد من التأجيج أو افتعال الأسباب التي تصب الزيت على النار .. فطلب المنع من السفر ، ومقطوع في هذه الحالة برفضه لأنه معدوم السبب والمنطق ، لا محل له من أي إعراب ، ولم تجر العادة بإطلاقه حتى بالنسبة للمتهمين ، ناهيك بالشاهد الذى لا إثم عليه ولا يجوز دستوريا وقانونيا التعرض لحريته ، بل وأمانه النفسي .. هذا الأمان الذى يبعثره هذا الطلب الذى خرج عن المعقولية والموضوعية وعن كل موازين الحساب والتقدير !!
إن الدفاع عن متهم أي متهم ـ ليس مبررا للتجاوز في حق المجنى عليهم أو ذويهم ، أو في حق الشهود .. فالدفاع أمانة ومسئولية ، محكوم بكل ضوابط الأمانة ومعايير المسئولية ، وهى مسئولية لا تقتصر على المتهم المدافع عنه ، وإنما هي واجبة إزاء الدعوى وخصومها وأطرافها وشهودها ، وإزاء المجتمع أيضًا .
عن أزمة اغتيال بطرس باشا غالى ، كتبت في رسالة المحاماة كيف امتحنت الجماعة الوطنية ، والأمة المصرية بعامة ، بامتحان عسير ـ في هذا الحادث ، والاحتقان الذى صاحبه ، واستغلال سلطات الاحتلال له بضرب النسيج الوطني ، والمؤتمرات المتقابلة التي جعلت تعقد بين أسيوط ومصر الجديدة ، وكيف كانت فطنة وبصيرة المحامين الذين وكلوا للدفاع عن إبراهيم الورداني : الأساتذة أحمد بك لطفى ، وإبراهيم بك الهلباوي ، ومحـمود بـك أبو النصر ، فضلا عمن ترافعوا أمام قاضى الإحالة : الأساتـذة : عبد العزيز بك فهمى ، ومحمد على علوبة بك ، وآخرين .. وأوردت بعضا من مرافعاتهم والخطة التي انتهجوها ، وكيف أن مـن يطالع مرافعات المحامين أمام محكمة الجنايات في الكتاب الضافى :« المرافعات في أشهر القضايا » ، للأستاذ محمود عاصم المحامي الذى حفظ لنا هذا التراث ، يلمس الأبعاد العميقة المدركة بموضوعية لحـق الدفاع بغير إسفاف أو مظهريات ، الواعية لحق الأمة في أن يصان لها ـ مع حق المتهم ـ حقها في الأمان وفى ضوابط ترعى الموازين جميعها بفهم ووعي ورؤية ناضجة .. بعد مرافعة النائب العمومي عبد الخالق ثروت باشا ( نقيب المحامين ثم رئيس الوزراء فيما بعد ) ـ ترافـع على التوالي الأساتذة محمود بك أبو النصر ، أحمد بك لطفى ، ابراهيم بك الهلباوي .. كانت مرافعة النائب العمومي قطعة أدبية وقانونية رائعة ، تـكهن فيها بما يرمى إليه الدفاع ، فسعى طاقته إلى سد منافذه ، إدراكًا لكون الدفاع عن المتهم هو آخر من يتكلم ، ومن ثمّ فإن واجب الفطنة أن يسبق إلى قراءة مرامه ، وأن يدلى بدلوه فيه .. وجدير بالذكر أن مرافعته مع روعتها التزمت الموضوعية والأدب الرفيع في الموضوع والقانون ، فلما جاء دور المحامين ، إذ بهـم يأخذون الألباب مع دقـة الموقـف وصعوبته ، فـلا يخـرج أحدهم عن الموضوعية ، ولا يسفسط في الوقائع أو القانون ، ويؤدى كل منهم دوره في إطار التقسيم الثلاثي الذى التزمـوه فيما بينهم .. يتحدث الأستاذ محمود بك أبو النصر في سبق الإصرار ونقطة السبب ، فيسوق ما لم يسبقه ولعله لن يلحق به أحد !
لم يكن هذا هو كل شعور أو فطنة أو دور المحامين في معالجة هذا الحدث الجلل ، فحملوا مشاعل المعالجة الحكيمة الكاملة في المؤتمر القبطي ( مارس 1911) بأسيوط ، وفى مؤتمر مصر الجديدة ( أبريل 1911) ، فكان للمحامين دور بارز في المرور بسفينة المؤتمر إلى بر السلامة ، واحتواء ما بدأ يتفشى من احتقانات تهدد وحدة الجماعة الوطنية .. فإلى جوار كلمة ورؤية مصطفى باشا رياض ، تحدث ببصيرة حاضرة وإحاطة عاقلة ، فرسان الكلمة والمحاماة : أحمد لطفى السيد باشا ( أستاذ الجيل ) ، وعبد العزيز فهمى باشا ، والأستاذ الكبير محمود بك أبو النصر المحامي ، والأستاذ محمد على علوبة المحامي ، وفارس المحاماة إبراهيم الهلباوي ، والأستاذ محمد حافظ رمضان المحامـي الذى صار رئيساً للحزب الوطني ( القديم ) ، والأستاذ محمد يوسف المحامي ، والأستاذ محمد أبو شادي المحامي ، فضلاً عن الأساتذة أحمد عبد اللطيف المكباتي وحمدي حماد وعلى شمس ، والشيخ عبد العزيز جاويش وآخرين ، حيث انتهى المؤتمر بعد مناقشات وكلمات وأبحاث ضافية ـ إلى قرارات شاملة في الحقوق السياسية ومسائل التربية والتعليم والمسائل الاجتماعية والاقتصادية والمصرفية ، وفى الأملاك الزراعية والصناعية والتأمين فيما يشبه برنامجاً متكاملاً للعمل الوطني كان للمحامين الدور الأكبر في وضعه ورسم خطوطه ورعايته .
هـذه هي المحاماة التي عرفناها ، وورثناها عن أسلافٍ لنا عظام !