المحاماة وحُسن الخطاب
ناصر عبدالهادي
وقعت عيني على مشهد عظيم للفنان الراحل ذكي رستم وهو يؤدي دور المحامي ببراعة، وكيف استطاع أن ينسج مرافعة غاية في الروعة والتأثير في فيلم “هذا جناه أبي”، وكنت لا أزال صغيرًا، والكل يستمع في إنصات تام وأدب جم، تقديرا للمتكلم، بداية من الهيئة الموقرة، مرورا بممثل الادعاء والخصم الشريف، نهاية بجمهور المتقاضين الذين يمثلون الشعب.. كانت هذه هي الانطباعات الأولى، التي بمرور الأيام زاد الإعجاب معها بهذه المهنة العظيمة.
وكانت الفرصة قد لاحت عندما تخرجت من الثانوية العامة، فما كان اختياري سوى كلية الحقوق، التي أعدها بمنزلة جوهرة التاج من بين جميع مناحي التعليم.
وبعد التخرج وعند الالتحاق بالمحاماة، ازداد الإعجاب، فأصبح حبا وعشقا لما رأيته وطبع في ذاكرتي وعشته.
وقد بدأت أتعلَّم فن الكلام، وفن الصمت، وفن الاستماع، باحترام وأدب من عظماء وفرسان تربيت على أيديهم، وأخذت عنهم وعن الأساتذة الأوائل.
أدركت حينها أن المحاماة هي الأدب جله، والاحترام جله، وأسمى معاني التوقير والتقدير، وأسمى معاني حسن الخطاب، أدركت فعلًا، لا قولا، أن تقدير واحترام القضاء والادعاء واجب، وأن في حسن الخطاب والأدب لهم بل وللخصوم أوجب.
أدركت أن المحاماة هي الكلمة الطيبة التي بها يعبر أصحاب الحقوق إلى غايتهم، وأنها السبيل إلى الوصول للحق والعدل، أدركت أن في انتقاء الكلمة واللفظ فضيلة أمرنا بها الله في كتابه الكريم، وفي سنن الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم، قال تعالي: “وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن”، وكذلك قوله تعالي: “وقولوا للناس حسنا”.
ولا يحسبن البعض أن في عبارات التوقير والتقدير والاحترام واختيار أحسنها وأنسبها للخطاب تكلفا، أو رياء، أو نفاقا، أو ما شابه ذلك، بل إن ذلك فضل من الله لنا وتفضيل، ألم يقل الله عز وجل في كتابه الكريم: “وهدوا إلى الطيب من القول”، فهل بعد ذلك ريب؟ وفِي سنن الرسول الكريم، سيدنا محمد صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، قوله: “الكلمة الطيبة صدقة”، وقوله: “من كان يُؤْمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت”، وقوله أيضا: “اتق النار ولو بشق تمرة وإلا فبكلمة طيبة”.
زملائي وأساتذتي: إن المحاماة رسالة عظيمة، وبحر شاسع لكل معاني النبل والفضيلة والشرف، حتى في الخصومة، وأرض خصبة لكل معاني النجدة والشهامة، والمحامون ربان هذا البحر، وفرسان تلك الأرض، وعلينا أن ندرك أن الله عز وجل قد اختارنا لهذه المهنة وتلك الرسالة، وقدر ذلك، كما اختار موسى النبي على قدر، وأرسل معه هارون النبي على قدر، ليشد أزره، ويحسن القول بلين حتى لفرعون.
وإذا أردت أن تعرف قدرك وكلمتك عند الله، فانظر فيما أقامك، ونحن نظن في الله الظن الحسن في أنه قد اختارنا وأقامنا على أنبل وأكمل رسالة، ألا وهي رسالة الحق والعدل، ومجابهة الظلم والطغيان بكلمة طيبة، تكون بإذن الله المحاماة فيها شجرة طيبة، أصلها ثابت، وفروعها الحق والخير العدل في السماء.
تقبل الله عز وجل صيامكم وقيامكم، وطيب مسعاكم، وكل عام وأنتم بألف خير.