المال ومعالم التقريب (2)

من تراب الطريق (920)

المال ومعالم التقريب (2)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 25/8/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

والكسل فيما يبدو أمر نفسي وعقلي، وهو خوف وإعراض عن تصور موقف جديد يدفعنا إلى الهرب من تغيير ما هو موجود فهو ـــ أي الكسل ـــ ليس مجرد كراهة وإعراض عن بذل المجهود في ذاته.. ذلك أن الآدمي لا يكف حتى في نومه عن بذل المجهود بصورة أو بأخرى، وحياته العضوية والنفسية سلسلة متصلة من الجهود التي لا تتوقف إلا إذا توقفت الحياة ذاتها.

فالكسل فيه أمر زائد على مجرد رفض المجهود، هذا الأمر الزائد هو رفض الجديد المقصود به إحداث تغيير في تصوراتنا أو مواقفنا، ونحن حين نتخذ موقفا جديدا ندخل فيما يشبه المغامرة، وهي قد تكون منهكة تدعونا إلى الكف والعودة لالتزام ما ألفناه، والتوقف عن بذل الجهود النفسية والعقلية التي يقتضيها التغيير.

نرى شيئا من ذلك لو تأملنا حال «الموجة المادية» التي بدأت تظهر بين المسلمين مع الفتوح في أواخر عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فهذه الموجة المادية التي علت وامتدت بعد ذلك، كانت في جوهرها موجة كسل عام بالمعنى المتقدم، تسربت إلى نفوس كثيرة لم تر الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تشهد المشاهد معه لتغيير حياتهم التغيير الشامل الجاد الذى يتطلبه تطبيق الإسلام تطبيقا صحيحا كاملا، فلما أطل الرخاء وزاد، ضاقوا بجسامة التغيير الواسع العميق المطلوب الذى يدعو إليه الإسلام، وتهيبوا تطبيق الإسلام الكامل (المجهد)، وغلب على أمرهم الاسترخاء النفسي والعقلي والروحي، واكتفوا بتطبيق الإسلام تطبيقا فيه مصالحة ومواءمة تتوقف عند حدود وأجزاء معينة ، وتأبى التغيير الكلى الذى هو هدف الإسلام الأساسي، ولا يزال هدفه إلى قيام الساعة.

مثل هذا حدث ويحدث في كل حركة دينية أو اجتماعية تتغيّا إحداث مثل هذا التغيير الكلى في حياة الناس، لأنها تصطدم بعد وقت قصير أو طويل ـــ بمقاومة الكسل البشري.. هذا الكسل الذى يفسر قصر عمر العصور المثالية في تاريخ الإنسانية !

ومن الملاحظ أن حائط الكسل يزداد كثافة كلما ازداد نفوذ الكتل والعامة، ونفوذها في العصر الحالي جسيم، وهولا يرجع إلى الفكر والنظر الفكري، لأن الفكر مهما تساهل لا يسلم للعوام في قيادة البشرية إلاَّ بدور ثانوي، ويبدو أن مكانة الكتل في زماننا إنما ترجع أساسا إلى دورهم في الصناعة والتجارة الحديثتين، فهما تحتاجان على النطاق الواسع ـــ إلى الكتل والعامة، كعمال أو عملاء على حد سواء، فالصناعة والتجارة هما القوتان الخفيتان اللتان تسوقان الكتل إلى مساواة الخاصة في الرغبات والشهوات والمطالب والحقوق، ولذلك فليس عجيبا ما نشاهده من شدة الروح المادية لدى الكتل، وظهور الأنانية والغرور، وضعف الشعور بالواجب، وقلة ضبط النفس والاتزان !

ولكن، هل يمكن أن تصبح الأشياء المادية أغلى وأثمن من الآدميين في مجتمع متحضر؟ أجل، وللأسف ـــ يحدث ذلك حينما نغفل أمر الآخرين ونسقطهم من تفكيرنا، وحين نبعدهم عن دائرة اهتمامنا، وحين لا نرى إلاّ أنفسنا وأغراضنا وما نخططه ونـدبره لتنفيذها أو تحقيقها.. فعندئذ يصبح الآدميون في نظرنا مجرد عوامل مساعدة نستخدمها في تحقيق أغراضنا !

لا بد أن يحدث هذا حينما نتصور أن الإنسان سيد مصيره بلا حدود ولا سقوف، وحين نسقط من رؤيتنا وحساباتنا ـــ أنه توجد جهة عليا سامية لا بد أن تخضع لها مشيئتنا، ولا نرى أن هذه الجهة العليا تفرض قداسة وقيمة لكل آدمي كآدمي.

لا شك أننا جميعا نريد خيرًا كثيرًا لديننا وإخواننا، ولكننا نتردد ونحجم عن دفع ثمن هذا الخير الكثير الذى نريده، لأننا لا نحب شيئا قدر حبنا لأنفسنا وأموالنا ومصالحنا، ولأننا رغم الأقوال والابتهالات لسنا واثقين تماما من وجهتنا، ويخلو معظمنا من استرابة قليلة أو كثيرة في وعد الحق، يستوى مسار الإنسان، ويتحقق التقريب، حين يسأل كل منا نفسه: هل يثق فعلاً فيما عند الله تبارك وتعالى ـــ ثقته في البنك الذى فيه ودائعه، أو الخزينة التي يكنز فيها أمواله، أو في شركة التأمين التي أمَّن لديها على حياته وماله، أو ثقته في وعد الحاكم ورضاه ؟!

يبدو أن العقود والعهود التي نعقدها أمام الله عز وجل معظمها كلام وأحلام، لأننا نفر في الواقع من تحمل المشاق والصعاب والتضحيات التي يقتضيها الصدق مع الله، والوفاء للإنسانية، واحترام الإنسان من حيث هو إنسان، مع أن ما نترك هذا من أجله ما هو إلاَّ الوهم والباطل وقبض الريح !

زر الذهاب إلى الأعلى