اللغة القانونية بين المنطقين القانوني واللغوي [ فصول في “اللُّغتين القانونية والأصولية “(الفصل 10) ]
بقلم: الدكتور/ محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]
تتعالق اللغة القانونية بالمنطق كما يتعالق الجسد بروحه، فالجسد هو اللغة القانونية والمنطق هو روحها، والقانون جوهرها، والأصول قائدها ودليلها ، ذلك أن اللغة القانونية قوامها وأصولها أربعة: ( اللغة والقانون المنطق والأصول) وتتكامل هذه الأربعة في التأسيس لهذا الصرح العظيم الشريف الذي يُدعى باللغة القانونية .
بداية دعونا نعرِّف بالمنطق لغة واصطلاحا ثم ندلف بعدها إلى بيان موقعه في اللغة القانونية، المنطق من (ن.ط.ق) جذر ثلاثي يعنى ابتداء الكلام ، قال ابن فارس (نَطَقَ) النُّونُ وَالطَّاءُ وَالْقَافُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ: أَحَدُهُمَا كَلَامٌ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، وَالْآخَرُ جِنْسٌ مِنَ اللِّبَاسِ»[ مقاييس اللغة (5/ 440)].
ومعناه اصطلاحا: علم تعصم مراعاته الذهن عن الخطأ ويعرفه الجرجاني « المنطق: آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، فهو علم عملي آلي، كما أن الحكمة علم نظري غير آلي، فالآلة بمنزلة الجنس. والقانونية: تخرج الآلات الجزئية لأرباب الصنائع، وقوله: تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر يخرج العلوم القانونية التي لا تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر بل في المقال، كالعلوم العربية» [التعريفات (ص: 232).]
ويسميه العرب تارة بالمنطق وتارة بالميزان ،وسماه الغزالي : « معيار العلوم « ، وعدَّه الفاربي «رئيس العلوم» ، وعند ابن سينا «خادم العلوم» وهو اقرب إلى الصواب لأنه وسيلة للعلوم وآلة لها ، وعرفه ابن خلدون بأنه :» قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعرفة للماهيات والحجج المقيدة للتصديقات ، ويسميه بعض الفلاسفة فن التفكير ، وأرسطو أول من رتبه وسماه بالتحليل ، وسماه شراحه بالمنطق من بعده « وللمنطق علاقة وطيدة بالكلام فهو منه ، واللغة تعبر عن التفكير وهو صورته كما يذهب الكثيرون لهذا ، ثم المنطق مكون رئيس وعنصر لا يستغنى عنه في صناعة الكلام وخاصة الكلام المنتظم ذي العلاقة بالتفكير والحسم، فهناك كتاب «الخطابة لأرسطو « و” كتاب العبارة» و”كتاب التحليلات الأولى» و»التحليلات الثانية «، وكتاب «الجدل» وهي كتب أساسية، ويضاف إليها «كتاب السفسطة» و”كتاب الشعر» وهذه الكتب كلها في اللغة المرتبطة بالمنطق أو في العبارات المنطقية وهذه الكتب المخصوصة بالمنطق والتي تسمى بالأورجانون Organon [د. جميل صليبا : معجم المصطلحات الفلسفية 2/428 ].
أما عن علاقة المنطق باللغة القانونية، فهو أصل من أصولها ومكون رئيس من مكوناتها على ما سيأتي تفصيله، ذلك أن طبيعة اللغة القانونية تقتضي حضور المنطق بقواعده وضوابطة باعتباره رابطة سببية بين قسميها البنائي والدلالي- فضلا عن روابطها الداخلية بين رموزها وبينها وبين مدلولاتها- فطبقا لمبادئ اللغة القانونية التي سنأتي عليها ، فإن غاية اللغة القانونية في الفهم والتفسير واستخلاص الأحكام على ما أراده المشرع تقتضي قيام علاقة منطقية بين قواعدها التفسيرية وقواعدها البنائية وارتباط الألى بالثانية ، والمنطق هو ما يقوم على تنظيم تلك العلاقة.
1- ينظر للمنطق باعتباره أحد مكونات اللغة القانونية بل وأصل لها وهذه إحدى الأطروحات الجزئية التي نقيم عليها تصورنا للغة القانونية، وكونه مكونا للغة القانونية وجوهرا فيها ليس ببعيد لسببين رئيسين: أحدهما أن المنطق جزء رئيس من اللغة -أية لغة- في تراكيبها وجملها وفي ترتيب دلالاتها فضلا عن الرابطة السببية التي يمثلها المنطق بين قسمي اللغة القانونية على نحو ما أشرنا إليه.
2- أن القانون باعتباره علما اجتماعيا ذا وظيفة تنظيمية غايته حماية الحق وتحقيق العدالة وكلاهما يقوم على المنطق الطبيعي تبعا للمدرسة المثالية أو المنطق الاجتماعي تبعا للمدرسة الوضعية.
ثم إن المنطق أداة من أدوات الأصوليين اللازمة وهو يقارب ثلث القواعد الأصولية على ما سبق إذ هناك القواعد الأصولية العقلية كأحد أهم مباحث علم الأصول، وبالنسبة للقانون والعلوم القانونية فإن المنطق حاضر وبقوة باسم المنطق الطبيعي ومنطق العدالة ومنطق أحكام القانون -وقواعده- فكلها معطيات قانونية ترسخت باسم العدالة وهي تُقبَلُ بالمنطق وتحقِّق غاياتها بالمنطق وتقوم على تنظيم المجتمع وحماية الحقوق بالمنطق.
وهو بلا ريب منطق العدالة نفسها لأنه منطق العقول الصريحة لدى الأسواء من كافة الناس، كما يُعدُّ المنطق أداة تفسيرية إضافة إلى كونه أداة بنائية للغة القانونية، فله دور بارز بل حاسم في اللغة وفي الأصول وخاصة في تفسير نصوص القانون واستباط الأحكام واستخلاص المقاصد منها. و هناك إطلاقات لغوية عدة على المنطق لعل أقربها: “لغة منطق القانون”.
ونؤكد أن المنطق المقصود في هذا السياق هو ذلك المنطق الطبيعي والمنطق البدهي الذي لا تكاد تختلف عليه العقول السوية، حتى وإن كانت قواعده مصاغة في قياسات ومقولات المناطقة وسائر مكتوباتهم إلا أنها معروفة لدى عقلاء الناس وأسويائهم فضلا عن علماء الكلام والجدل والأصول ممن لم يتأثروا بعلوم المنطق أيضا، وقد ردها البعض إلى أنها قواعد لغوية عامة وقواعد للفطر السليمة والعقول الصريحة. وجدير بنا التنويه على أهمية المنطق في اللغة ومدى تناغمها فالمنطق من النطق، والعلماء يحدُّون الإنسان ( يعرفونه) بأنه حيوان ناطق.
ويمكن لنا كذلك النظر إلى المنطق باعتباره سمة وخصيصة ذاتية من خصائص اللغة القانونية، إذ إنه يطلق «على ما بين الأشياء الواقعية من ارتباط ضروري وتسلسل محكم ونظام دقيق، تقول منطق الطبيعة، منطق التاريخ، منطق العواطف «[ د. جميل صليبا : معجم المصطلحات الفلسفية 2 /430] ومن ثم يمكن وصف اللغة القانونية وخاصة لغة القاعدة القانونية على وجه الخصوص بأنها لغة منطقية، ونقصد بذلك المعنى الاصطلاحي لكلمة المنطقية والمنطقيLogica، فالمنطقية المنسوب إلى المنطق و”يطلق على كل ما يطابق قوانين العقل أو يتعلق بقوانين المنطق، فيقال: القضايا الاستنتاجات المنطقية، ويرادف أكثر المنطقي العقلي» [د. جميل صليبا : معجم المصطلحات الفلسفية 2،428] مع ملاحظة أن بعض المحدثين يفرق بينهما، باعتبار «أن المنطقي يطلق على النطق أي على اللفظ بالقول والفهم بالفعل. بينما العقلي لا ينسب إلا على المنسوب إلى العقل، والمنطقي يطلق على المشتغل بالمنطق، ويطلق كذلك على من يتقيد بأحكام المنطق في تفكيره واستدلاله»[( د. جميل صليبا : معجم المصطلحات الفلسفية 2،428، 429) ].