اللغة الجنائية

مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني

هل تساءلت يومًا: ما الذي يجعل من عبارةٍ واحدة في قانون العقوبات تُفضي إلى الإدانة أو البراءة؟ كيف يمكن أن تتحول الكلمات إلى سلاح يُدين، أو ملاذ يُنقذ؟ وهل يُمكن أن تكون اللغة ذاتها خصمًا وعدوًّا في محراب العدالة؟ تلك الأسئلة لا تُعد ترفًا فكريًا، بل تمثل جوهرًا دقيقًا في “فلسفة القانون الجنائي”، الذي لا يقوم فقط على الأركان والعناصر المادية والمعنوية للجريمة، بل يتأسس أولًا على اللغة التي تصوغ هذه الأركان، وتُقنّن تلك الأفعال، وتضبط الحدود الدقيقة بين ما هو مُجرَّم وما هو مباح.

اللغة الجنائية ليست مجرد وعاء لنقل الأفكار أو إبلاغ القواعد، بل هي سلطة في ذاتها؛ إنها البنية التي تُنظم التفكير القانوني، وتضبط التوصيف، وتُحيل الأفعال إلى أوصاف، والوصف إلى قاعدة، والقاعدة إلى حكم. كلّ فعل إجرامي لا يكون جريمة إلا متى وقع تحت طائلة “نص”، وهذا النص لا يُوجد في فراغ، بل يتجسّد في كلمات، وكل كلمة تمثل خيطًا في نسيج العدالة أو ستارًا قد يحجبها. فالفرق بين “القتل العمد” و”الضرب الذي أفضى إلى موت” ليس فرقًا في الواقعة فحسب، بل في اللغة التي تكيّفها وتُسميها.

والسؤال الذي يُطل برأسه من رحم الممارسة العملية: هل تكون اللغة أداة حياد، أم يمكن أن تُمارس التحيّز؟ الحق أن النصوص القانونية، مهما بدت موضوعية، لا تخلو من احتمال الغموض أو الإبهام، والتأويل فيها يصبح ضرورة لا ترفًا، وبهذا تدخل اللغة في علاقة حسّاسة مع القضاء؛ فبينما يُفترض أن القاضي يفسّر النص دون أن يشرّع، فإن غموض التعبير قد يدفعه إلى حافة “الخلق التشريعي”، لا التفسير فقط. هنا تبرز خطورة اللغة، فالكلمة الواحدة قد توسّع دائرة التجريم، أو تضيقها، وقد تفتح بابًا للمساءلة الجنائية لم يكن مقصودًا من المشرّع، أو قد تُسقط عن فعلٍ وصف الجريمة لقصور في الصياغة أو اضطراب في المفهوم.

ومن بين أنواع التأويل التي تلعب دورًا محوريًا في تفسير النصوص الجنائية، يبرز التأويل القضائي، الذي تقوم به المحاكم عند مواجهة نصوص غامضة أو غير واضحة، بهدف استخراج المعنى الذي يحقق العدالة والإنصاف. فمثلاً، فسّرت محكمة النقض المصرية في بعض أحكامها مصطلح “نية الإضرار” بأنها لا تتحقق بمجرد وقوع فعل ضار، بل لابد أن يقترن ذلك بقصد خاص واضح لدى الفاعل. وعلى غرار ذلك، تفسر المحاكم الفرنسية مثلًا عبارة “ولوج غير مشروع إلى نظام معلوماتي” بما يتجاوز مجرد التصفح العادي لموقع غير محمي، إذ يشترط وجود وسيلة أو أداة تسمح بتجاوز الحماية القانونية، مما يعكس دقة التأويل القضائي في ضبط حدود التجريم.

إلى جانب ذلك، يكتسب التأويل الغائي أو المقصدي أهمية قصوى، إذ يُفسر النص القانوني وفق الهدف الذي قصده المشرّع، حتى إذا خالف ذلك ظاهر ألفاظ النص. ومن الأمثلة البارزة، حين ينص القانون على “حماية الحياة الخاصة”، ويثار الجدل حول ما إذا كانت الكاميرات في الأماكن العامة تشكل انتهاكًا لهذه الحماية، يُفهم النص على ضوء غايته الأصلية في صون خصوصية الفرد وحمايته من التطفل، لا مجرد حظر التصوير بشكل مطلق. هذا التأويل يُمكّن من تطبيق النصوص بشكل مرن وواقعي، يوازن بين الحقوق والالتزامات في إطار فلسفة العدالة الجنائية.

ولعل الواقع قدّم أمثلة صارخة على تلك الإشكالية، حينما اختلفت محاكم في تفسير عبارات مثل “الوسيلة الإلكترونية” أو “الاعتداء المعنوي”، فتباينت الأحكام رغم وحدة الوقائع، واختل ميزان التقدير بسبب تباين القراءة اللغوية للنصوص. ولا مراء من أن اللغة الجنائية لا تُحدّد فقط الأفعال المُجرّمة، بل تُشكّل أيضًا هوية العقوبة وحدودها، وتُعين الوصف الجنائي، ومن ثَمّ تُحدّد ما إذا كانت الجريمة جناية أو جنحة أو مجرد مخالفة، وهذا يُفضي إلى أثر مباشر على ضمانات المتهم، وحقوق الضحية، ومركز القاضي ذاته في “هندسة الحكم القضائي”.

من هنا، يصبح للّغة بعدٌ أخلاقي وفلسفي، يتجاوز الوظيفة الفنية البحتة. فالدقة في التعبير ليست رفاهية تشريعية، بل مسؤولية قانونية. والمشرّع الواعي هو من يُدرك أن الكلمة ليست مجرد إشارة، بل قد تكون قدرًا. لذلك لا عجب أن تتجه بعض التشريعات المقارنة إلى مراجعة النصوص الجنائية من حين لآخر، لا لتغيير السياسات العقابية، بل لتحسين صياغتها، وتقريبها من العقل القانوني ومن ضمير المجتمع في آنٍ معًا. فالنص الذي لا يُفهم على نحو واضح، لا يُمكن أن يكون سندًا للعقوبة، احترامًا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، الذي يقوم في جوهره على وضوح اللغة وسهولة فهمها.

وإذا كانت اللغة القانونية في عمومها تتصف بالتجريد والجمود، فإن “اللغة الجنائية” تُعد أكثرها حساسية وخطورة؛ لأنها تمسّ الحرية، والكرامة، والحياة. وبهذا فإن الاعتناء بها واجب لا يُناط بالصياغة فقط، بل يُستوجب أيضًا من القضاة، والمحامين، وأساتذة القانون، أن يتحلّوا بفطنة لغوية قانونية، تجعلهم أكثر انتباهًا للتفاصيل التعبيرية، وأكثر قدرة على التمييز بين المقصود والمحتمل، وبين الظاهر والمستتر، وبين الدلالة النصية والدلالة السياقية.

اللغة الجنائية ليست مجرد وسيلة للتوصيف أو الحكم، بل هي “روح” النظام العقابي بأسره. فمن خلالها تتجلّى عدالة القانون أو تتوارى، وبها تُصاغ المبادئ أو تُنتقص، وعبرها تُبنى الثقة أو تنهار. لذلك، فإن كل إصلاح في البنية القانونية يجب أن يبدأ بإصلاح “اللسان القانوني” ذاته. فمن لم يُحسن التعبير عن العدالة، لن يُحسن تطبيقها. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى