الكثرة والقلة

من تراب الطريق (1064)

الكثرة والقلة

نشر بجريدة المال الأحد21/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا ينبغي أن نظن أن الكثرة عالة على القلة، ذلك أن وجود الكثرة ضروري لوجود القلة المفكرة العالمة العارفة كضرورة وجود الأرض الخصبة لإنبات الثمار والأزهار والأشجار.. ويستحيل وجود هذه القلة وحدها وبذاتها دون محيطها الذي هو تلك الكثرة.. علما بأن ترقى الكثرة يزيد حتما في تعداد القلة وفي تفوقها ونبوغها وأن تدهورها أو انحطاطها ينعكس على عدد ونوع الأذكياء والعلماء فيها في المجتمع ويعوق تقدمهم وتطورهم.

والكثرة والقلة تعيشان معا على نفس الأرض وفي نفس المجتمع.. وقد زاد اختلاطهما واشتراكهما في أيامنا هذه بصفة خاصة نتيجة ضخامة النشاط الصناعي والتجاري الهائل غير المسبوق.. هذا النشاط الذي فتح على مصاريعها أبواب المصانع والمتاجر ووسائل الإعلام والإعلان والنقل والسفر والسياحة والترفيه والرياضة والتعليم والعلاج والتشييد والزينة.. وفتح فرص التقارب بين الجنسين في الحقوق وزيادة فرص تلاقى أجناس البشر على اختلاف ألوانها وألسنتها وأوطانها على نحو لم يسبق له مثيل قط من قبل.. وإذا كان عالم الإنسان قد عاش دائما في ماضيه على هذا النحو المختلط المشترك، مليئا بالإيجابيات والسلبيات، وتعرض لمحن في أحيان غير قليلة عطلت أو أبطلت تقدمه لمئات السنين، فإن ما في أيدي البشر الآن من الوسائل وما في رؤوسهم من الأفكار وفي قلوبهم من العواطف قد أتاح للآمال العظيمة كما أفسح المجال للنكبات الهائلة فرصا لم يسبق لهم بها معرفة ولم يحسبوا له حسابا صحيحا بعد.. ومع كثرة الاكتشافات والمعارف البالغة العمق والدقة والأهمية ومع الاختراعات المذهلة العجيبة التي تدهش العقول، توجد هنا وهناك بلا انقطاع القلاقل والفتن والمذابح والتدمير والتخريب التي لا تكاد تهدأ في مكان حتى تندلع أقسى وأعتى في مكان آخر. ويبدو أن القادة في العالم قد ألفوا ذلك كما ألفته الشعوب وأدخلوه في اعتيادهم فلم يعد يفزع الآمن أو يخيف الباطش ويرده !

ولعل ذلك يرجع فيما يرجع إليه إلى كثرة الأمور والأشياء التي تشغل بال الآدمي غنيا أو فقيرا متعلما أو جاهلا كثرة لم يسبق لها مثيل في أي عصر.. تلتهم كل حياته الواعية في اليقظة والمنام.. بحيث أصبحت حياة كل فرد بلا تفريق أساسي، أسيرة تماما لتلك الشواغل التي لا ترابط بين بعضها وبعض في معظم الأحوال.. إلا وحدة الذات.. وهذه وحدة مشتركة لا تميز في مجال الوعي بين الجدي الهام وبين التافه أو الوقتي العارض قليل الجدوى.. وقوة تلك الشواغل قد استبدت في مجتمعاتنا نتيجة طول الاعتياد وسعة الانتشار حتى لم يعد يوجد إلا نادرا من يرغب في التعمق في فهم ما يجرى ويتكرر أمامه ويكون قادرا على ذلك الفهم، إلا بصورة جزئية ولأمد غير طويل !!.. واكب سعـة انتشـار تلك الشواغـل التي لا آخر لها، سعة السطحية وقلة الثبات في أفكار الأغلبية الغالبة من أهل هذا الزمان !

فقاعدتنا البشرية التي كانت تملؤها الألغام في الماضي زادت الآن امتلاءً بها وبخطورتها كما زادت شعورا بالقدرات والخصوبة. وربما كان على كل عاقل الآن أن يلتفت أول ما يلتفت إلى توجيه قدراته إلى نزع وإزالة ما يتمكن من نزعه وإزالته من تلك الألغام.. لأن ذلك يقوى شعور الكثرة الكاثرة بخصوصيتها وإمكاناتها الإيجابية، ويثير فيها الاعتزاز بإيجابياتها والحرص على تنميتها وتهيئة الفرص لإنجاحها والوقوف في وجه من يحاول تعويق تقدمها.

على أنه يجب أن نأخذ في الاعتبار أن حضور الأفكار التي نعتبرها هامة أو أساسية في الذهن يعترض مسيرها باستمرار أفكار صغيرة تفصيلية ليس لها بها علاقة تستهدف أغراضا صغيرة جانبية.. أحيانا تكون هذه الأفكار الجانبية غير مستحبة أو غير كريمة.. وهذا لأن تفكير الآدمي في العادة، لا يكون في لحظة حصوله نقيا مقصورا على الغاية التي نقصدها ونظن أنها هي وحدها التي تتوجه إليها أفكارنا.. بل الواقع أنه يصحب هذا التفكير أفكار أخرى متعلقة بأغراض معارضة أو مخالفة تحاول فرض نفسها على الوعى.. وقد نفلح في مقاومة بعضها ولا نفلح في البعض الآخر. ونحن من باب التبسيط نتجاوز عن الالتفات إلى باقي تلك الظاهرة من تعقيد وعن آثاره في سلوك الآدميين ومبلغ إيقانهم وتمسكهم بقراراتهم.. لأن اعتقادنا في الجزم بما نقطع ونجزم به أوسع وأقل دقة ومصداقية من حقيقة واقعه.. وربما كان هذا سمة من سمات طبيعة مخ الآدمي التي يبدو أنها ليست مستعدة للدقة التامة المطلقة.. وإن كانت تشتهيها كواقع وكمنتجع للمزيد من الترقي والرقي.

ومن قديم، لوحظت ظاهرة اعتراض النوايا والأفكار المخالفة وغير المستحبة أو غير الكريمة، مسار النيات والأفكار الخيرة الهامة في وعينا، وتشعبت هذه الظاهرة إلى قوى شيطانية خارجية تقاوم عادةً بالاستعاذة التي تذكر الآدمي وتعيد وعيه إلى الإفاقة والانتباه لخبث وتسلل وخداع تلك القوى، وإلى نتائجها المخربة المدمرة لحياة الإنسان إذا استسلم لها.. ومازالت كثرتنا وقلتنا في الأغلب الأعم تلجأ إلى الاستعاذة الآلية التي قليلا ما تجدى لأننا جميعًا كثرة وقلة لا يوقظنا إلا نمو الثقة والفهم وصحة الرؤية لمسيرتنا واعتزازنا الجاد الفعلي بها وعزمنا خاصة وعامة على السير معا تلك المسيرة المشتركة نتيجة لتوفر صلاحيتنا وقدرتنا جميعا على التزامها والمحافظة على اطراد نموها وتقدمها وتطورها.. وعندئذ أعتقد أننا نكون أصدق تديناً وأصح اعتقادا للديانات التي ننتسب إليها وأصلح بها مما نحن عليه الآن.. لأنها صارت بذلك جانبا أساسيًّا جوهريًّا من جوانب تلك المسيرة المشتركة التي جمعت الكل في كل مجتمع.. وأصبح على هذه المجتمعات أن تواجه المستقبل غير المخوف إلا من المعقول باطمئنان وثقة واعتزاز إلى ما ينتظره من الرقى والتقدم.. وخاصة العدالة بين الكثرة وبين القلة التي أدت قلة الالتفات إليها في قلوب أو عقول البشر إلى المخاطر الماضية والمستقبلة فضلا عن المخاطر الحاضرة التي تشعـر بها في كل مكان !

 

زر الذهاب إلى الأعلى