القانون وشرنقة الاعتياد

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 10/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

لم يجد المعاندون لكل الرسل والأنبياء، حجة أو ذريعة يتقولونها رفضًا لدعوات الهداية والتوحيد، إلاَّ أنهم ألفوا آباءهم وأجدادهم على ما هم عليه، ظانين أن «الاعتياد» قانون، أو شهادة بذاته على الصواب، لا يرون أن الصنم لا يضر ولا ينفع، وأنه مصنوع لا صانع ولا خالق، ولا يرون أن كمال الإله يتعارض وإياه تعدد الآلهة وتعدد المشيئات، ويرون أحيانًا فى الحيوانات قداسة، وفى بعض الأشجار والنخيل قداسة، وأن ما عبده الآباء والأجداد لا بد أن يُعبد كما كانوا يعبدوه، وأنه من الخطل أن يدعو الأنبياء إلى إله واحد بينما جرت عادتهم على أن الآلهة متعددون، ومنهم من جرت عاداتهم على عبادة الشمس أو القمر أو الكواكب، أو تقديس الأبقار، لا يرون غير عبادة الآباء مهما كانوا فى ضلال مبين.
لا يخرج أمثال هؤلاء من «شرنقة الاعتياد»، وهي شرنقة صلدة أشد من الشرنقة التي تتقوقع فيها بذرة الدودة حتى تفقس وتخرج منها، فشرانقهم جدران صلدة، لا سبيل إلى اختراقها، وإلى إعادة النظر فيها.
ولكن الدنيا فى حالة صيرورة دائمة، يلقي إليها العلم ومكتشفاته كل يوم بل كل ساعة بالجديد الذي لم يدر قط في الأخلاد، لا سيما أخلاد الجهالة المطبقة !
أينما يولى المتأمل في أحوال الحياة والناس، يجد عادات خاطئة قد تجذرت وجمدت عليها العقول، عادة ختان الإناث، وعادة النقاب، وعادة الاعتقاد أن الأزياء من الدين، أو أن إطلاق اللحى من الدين، ومنهم من لا يزال يعتبر أن غسل النجاسة لا يكون إلاَّ بالتراب، وأن تنظيف الأسنان لا يكون إلاَّ بالسواك، وعادة الاستيلاء على ميراث الإناث، وعادة الاعتقاد بأن تعدد الزوجات أصل متبع ورخصة مباحة بلا ضوابط ولا أسباب ولا حدود، وعادة الاعتقاد بأن كل الموسيقى والغناء حرام، وعادة الظن أن كل النحت حرام مهما كان فنيًا وبعيدًا عن شبهة التجسيد، وأن تحية أهل الكتاب حرام، وأن السنة ـ حتى خبر الآحاد ـ يمكن أن تعدل القرآن، وعادة إعضال المرأة التى توفى زوجها، وأنه لا بأس من أكل مال اليتيم بتعلات لا يقبلها الدين والقانون، وعادة الاعتقاد أن الملصقات العشوائية من الدين، وعادة إجبار البنت على الزواج ممن تأباه، وعادة الخلط بين الفقه وهو بشر وبين الدين وهو إلهي.
هذه محض أمثلة، ترينا كيف أخذتنا العادات أو شرانق الاعتياد بعيدًا عن الدين، ولا شك أن إزاحة هذه التلال من العادات والضلالات، تحتاج إلى جهود مضنية ومتواصلة، وهذه التلال هي التي تقاوم كل القوانين التي تستهدف الإصلاح والخروج من شرنقة هذه العادات الضالة المضلة.
لا أظن أن القارئ الكريم يتوقع مني أن أبين مناوآت كل هذه العادات للقانون !
دعوني أتكلم اليوم عن عادة ختان الإناث، فهي عادة ليست من الدين، وتدمر الأسرة، فضلاً عن تدميرها لحقوق حواء.
وللقانون ـ مع الطب ـ دور كبير لم ينقطع قط عن التحذير من هذه الآفة ومضارها الجسدية والنفسية، وعلى كيان الأسرة، وفرض لها عقوبات، حالة كونها تشكل جرحًا عمديًا، قد يتطور إلى عاهة مستديمة إذا نجم عنه ـوكثيرًا ما يحدثـ تعطيل وظيفة عضو خلقه الله لغاية أرادها سبحانه.
والذين يتنادون بختان الإناث، لا يعرفون طبًّا، ولا يفهمون شرعًا ولا قانونًا.
الطب يقرر بإجماع أن فى ختان الأنثى ضرر بالغ، على نفسيتها، وعلى أنوثتها، وحقها الطبيعي، ويترك بتداعياته أثرًا ضارًا على الأسرة.
ومن المؤسف والإغراق فى الجهالة، أن البعض لا سيما فى الريف وقاع المدينة، يستعينون على هذه الجريمة بقابلات أو بممرضين أو بمن يسمى حلاق الصحة، لا علم لهم، ولا خبرة لديهم، ولا ضمير لهم، ولم يقتصر هذا الاستخدام الجهول على مضرة لا تملك لها الصغيرة دفعًا، وإصابتها فى كثير من الأحيان بعاهة مستديمة تدفع ثمنها من صحتها البدنية والنفسية، وإنما قد تدفع الصغيرة حياتها نفسها في جريمة يتساند الفاعلون للمسارعة بإخفائها عن أعين السلطات، ولكن عين الله لا تنام !
وفي الشرع؛ أفتى الأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء ـ أن ختان الإناث لم يثبت بسنة مؤكدة، بينما أثبت العلم أن فيه مضرة محققة للأنثى، وأصدر مجمع البحوث الإسلامية بيانًا شاملاً في 28/6/2007، أورد به أن أعضاءه أجمعوا على أن التحقيق العلمي كشف بجلاء أنه لا أصل من أصول التشريع الإسلامي أو أحكامه الجزائية يقر هذه العادة التي ثبت ضررها وخطرها على صحة الفتيات، وعلى ذلك كانت قد جرت فتوى دار الإفتاء، وأشارت في فتواها إلى حكم المحكمة الإدارية العليا الصادر سنة 1997 الذي قضى بتأييد قرار وزارة الصحة بحظر الختان، تأسيسًا على أن ختان الإناث لا يعتبر حقًّا شخصيَّا إذْ لم يرد به نص فى القرآن الكريم أو حكم قاطع الثبوت والدلالة في السنة.
وحين ينحسر الغطاء الشرعي ـ وقد انحسر ـ يسقط عن الختان سبب الإباحة، ويفقد سنده، ويغدو جنحة جرح عمدي، قد تصل إلى جناية العاهة المستديمة إذا جار وأستأصل الجزء الحساس من البظر، لتصل العقوبة إلى السجن خمس سنين، وإلى السجن المشدد عشر سنوات إذا اقترنت العاهة بسبق الإصرار.
وجدير بالذكر أن الحظر الشرعي ليس جديدًا، فقد سبق إليه الفقه عام 1904، ومن قبله الإمام المنذر النيسابوري المتوفي سنة 319 هـ ، والإمام الشوكاني في «نيل الأوطار»، وابن عبد البر في «التمهيد» ، ومن بعدهم بسنين الإمام الراحل محمود شلتوت.
وللأسف، لا يزال الطب والشرع والقانون، يصطدمون بالعادات الجهولة، التي تأبى إلاَّ أن تساير عادات الأجداد، بلا فهم ولا تفطن، ولا تزال الإناث تدفعن ثمنًا باهظًا لهذا التخلف وتلك الجهالة التي تجذرت بحكم العادة !!!

زر الذهاب إلى الأعلى