القانون الجنائي الحي

الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء أبو ظبي

يصدر قريباً عن دار الأهرام للإصدارات القانونية والنشر والتوزيع مؤلف «القانون الجنائي الحي» للدكتور أشرف نجيب الدريني. وعندما طلب مني المؤلف كتابة التقديم لهذا الكتاب، لم أتردد لحظة واحدة، ويرجع ذلك لعدة أسباب، بعضها يعود للمؤلف نفسه، والبعض الآخر يعود لي شخصياً، وبعضها الثالث يعود إلى موضوع الكتاب. ففيما يتعلق بالمؤلف، وهو الدكتور أشرف نجيب الدريني، أستطيع أن أقول باقتناع كامل إنه من النماذج القليلة في مجتمعاتنا التي لم يتوقف عهدها بالبحث الأكاديمي عند حد الحصول على درجة الدكتوراة، حيث استمر عطاؤه العلمي من خلال المقالات المنشورة على موقع نقابة المحامين المصرية، والمشاركات ذات الصبغة الأكاديمية المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، تفاعلاً مع الأحداث والقضايا المجتمعية المهمة، ومن خلال الدراسات والبحوث الرصينة، ومنها المؤلف الذي نحن بصدده. أما فيما يتعلق بي شخصياً، فقد سبق لي كتابة سلسلة من المقالات تحت عنوان «القانون كائن حي»، أتمنى أن ترى النور قريباً. ومن ثم، فإن الحديث عن «القانون الحي» يجد صدى إيجابياً في نفسي ويتفق مع أفكاري ومعتقداتي وما أمارسه فعلاً في حياتي العملية. وفيما يتعلق بموضوع الكتاب، وإذا كانت المكتبة القانونية العربية قد شهدت مؤخراً صدور بعض الدراسات ونشر بعض الأبحاث والمقالات عن «القانون الحي»، فإن هذه الدراسات والأبحاث والمقالات تتعلق في معظمها بفروع القانون الأخرى، ولاسيما القانون الإداري والقانون الدستوري (راجع على سبيل المثال: د. محمد محمد عبد اللطيف، القانون الحي ورقابة الدستورية، دار الفكر والقانون، 2019م؛ محمد جوين، إعمال نظرية القانون الحي في اجتهاد القضاء الدستوري، دراسة مقارنة بين إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، دفاتر برلمانية، المجلد الثاني، العدد الأول، أبريل 2023م، ص 99). ومن ثم، نحسب أننا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن هذه الدراسة هي الأولى من نوعها في المكتبة القانونية العربية التي تتناول فكرة القانون الحي في إطار القانون الجنائي.

 

وقد كان الفقيه القانوني الكبير الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري هو أول من استخدم عبارة «القانون الحي» أو «القانون كائن حي» في الفقه القانوني العربي. ففي مقدمة مقال منشور بالعدد الأول من مجلة القانون والاقتصاد، التي تصدر عن كلية الحقوق بجامعة القاهرة، بعنوان «وجوب تنقيح القانون المدني المصري – وعلى أي أساس يكون هذا التنقيح – بمناسبة العيد الخمسيني للمحاكم الأهلية»، يقول الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري: «ليس القانون مما يمكن حصره في دفتي كتاب، أو في مجموعة من النصوص. وهذه حقيقة مفروغ منها، ولا يمكن أن يتطرق إليها شك في المرحلة التي وصلنا إليها من البحث العلمي. والفضل في تقرير ذلك يرجع للمدرسة التاريخية، وعلى رأسها الفقيه ساڤيني (Savigny). فقد نجحت هذه المدرسة في إثبات أن القانون كائن حي، ينمو ويتطور في البيئة التي نشأ فيها، وهو أكثر مرونة من أن يعيش في نصوص جامدة، ما دامت الحياة في تطور مستمر. على أن صوغ القانون في نصوص مرتبة، ووضع هذه النصوص في مجموعة مبوبة، وهذا ما نسميه بالتقنين (Codification)، إذا كان لا ينسجم انسجاماً تاماً مع هذه الحقيقة، فإنه لا يصطدم معها. فالقانون، وهو يتدرج في مراحل تطوره، يكون في حاجة إلى أن يسجل، في وقت ما، على الصورة التي وصل إليها في ذلك الوقت، على ألا تكون هذه الصورة نهائية، فليس للقانون نهاية، إلا إذا قيل إن العالم إذا وصل في تقدمه إلى مرحلة معينة، بلغ الغاية من الكمال، وركد بعد ذلك لا يتطور».

 

وفي مقال بعنوان «من مجلة الأحكام العدلية إلى القانون المدني العراقي وحركة التقنين في العصور الحديثة»، منشور بمجلة القضاء العراقية السنة الثانية العدد الأول بتاريخ 2 مايو 1936م، يقول الفقيه القانوني الكبير الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري: «فكل من يعرض للتشريع ومسائله يجب أن يعرف أن القانون ليس هو كلمة المشرع يقول له كن فيكون. وقد مضى ذلك الزمن الذي كانت تسود فيه هذه النظريات السطحية. والقانون كائن حي، ينشأ ويترعرع وينمو، حتى يبلغ أشده، وليس هو خلق الساعة ولا هي الإرادة وإذا كانت المدرسة التاريخية قد بالغت في هذا المعنى، فإن هذا لا يمنع من أن المذهب في جوهره صحيح. فإذا أريد وضع قانون مدني للعراق وجب أن يراعى فيه أن يكون متصل الحلقات بالماضي بالقدر الذي ينبغي أن يتطلع فيه للمستقبل».

 

ويمكن أن نجد المعنى ذاته في العديد من أحكام المحكمة الدستورية العليا المصرية، حيث تقول جهة الدستورية في بلادنا إن «الدستور وثيقة تقدمية لا ترتد مفاهيمها إلى حقبة ماضية وإنما تمثل القواعد التي يقوم عليها والتي صاغتها الإرادة الشعبية، انطلاقاً إلى تغيير لا يصد عن التطور آفاقه الرحبة» (حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 4 يناير 1992م، القضية رقم 22 لسنة 8 قضائية دستورية). وفي حكم آخر، تؤكد المحكمة أن الدستور «وثيقة تقدمية نابضة بالحياة، تعمل من أجل تطوير مظاهرها في بيئة بذاتها» (حكم المحكمة الدستورية العليا، 5 فبراير 1994م، القضية 23 لسنة 15 قضائية دستورية). وفي حكم ثالث، تقول المحكمة إن «الدستور وثيقة تقدمية لا تصد عن التطور آفاقه الرحبة، فلا يكون نسيجها تناغماً مع روح العصر، وما يكون كافلاً للتقدم في مرحلة بذاتها، يكون حرياً بالاتباع بشرط ألا يناقض أحكاماً تضمنها الدستور» (حكم المحكمة الدستورية العليا، جلسة 1 فبراير 1997م، القضية رقم 7 لسنة 16 قضائية دستورية).

 

ويمكن أن نجد النهج التفسيري ذاته في بعض أحكام المحكمة الدستورية الألمانية، حيث يجرى قضاؤها على أنه «إذا ظهرت خلال تطبيق مواد الدستور ظروف جديدة غير متوقعة، أو إذا جدت ظروف أضافت وجهاً جديداً أو معنى جديداً في ضوء التطور العام، فإنه يمكن تفسير الدستور وفقاً لهذه المتغيرات». كذلك، جرى قضاء المحكمة الدستورية النمساوية على الأخذ بما يسمى «التفسير المعاصر للدستور» (راجع: د. أحمد فتحي سرور، نظرات حول التفسير الدستوري في قضاء المحكمة الدستورية العليا، مجلة الدستورية، العدد الخاص، مارس 2009م، ص 3 وما بعدها؛ منهج الإصلاح الدستوري، مجلة الدستورية، العدد التاسع، ص 14 وما بعدها؛ د. جابر محمد حجي، السياسة القضائية للمحكمة الدستورية العليا، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2012م، ص 354 وما بعدها).

 

كذلك، يمكن أن نجد العديد من التطبيقات لهذا النهج التفسيري في أحكام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، حيث يستخدم بعض الفقه للدلالة عليه عبارة «الأسلوب التفسيري التفاعلي التطوري». راجع:

Gérard COHEN-JONATHAN et Jean-François FLAUSS, La Cour européenne des droits de l’homme et le droit international, Annuaire français de droit international, Année 2008, Vol. 54, no 1, pp. 529- 546 où les auteurs parlent de «la méthode d’interprétation synergétique et évolutive».

 

وما دمنا نسلم بأن فكرة «القانون الحي» تجد أساسها ومنبتها في أفكار المدرسة التاريخية، فإن من الضروري أن نلفت النظر إلى أن المدرسة التاريخية ترى أن القانون ليس وليد إرادة واعية تدبر في صنعه، وأنه ليس من صنع المشرع، كما أنه ليس ثمرة التفكير والاستنباط، ولكنه نتاج الأمة ومنبعث منها، ووليد البيئة الاجتماعية المتطورة، وأنه ينشأ في ضمير الجماعة، ويتطور ذاتيًا دون أن يقيده شيء. ونتيجة لتصور القانون على هذا الشكل، فإن وظيفة المشرع في هذه المدرسة، لا تعدو سوى أن تكون تسجيلاً للقانون الذي تولد عن البيئة، فهو غير ذي دور فعال في وضع القانون، وإرادته ليس لها قيمة في ذاتها، بل قيمتها تنحصر في التعبير عن حاجات المجتمع المتطورة المتجددة، والتي تمثل مضمون تلك القواعد القانونية، وأن النصوص التشريعية بعد صدورها، تنفصل عن إرادة واضعيها، وتصبح كائناً حياً متطوراً، يتفاعل مع الحياة الاجتماعية التي نشأ فيها، مما يكسب النصوص مرونة تجعلها متلائمة مع ظروف الحياة المتطورة. وحاصل ذلك جميعه هو أن وظيفة المفسر ليست البحث عن إرادة الشارع الحقيقية أو المفترضة كما ذهب أنصار مدرسة الشرح على المتون، وإنما البحث عن الإرادة المحتملة، التي يمكن أن تصدر عن المشرع، لو أنه وضع النص في تلك الظروف القائمة عند تطبيق النص، وأن نصوص القانون لا تُفسر حسب إرادة الشارع الحقيقية أو المفترضة، وإنما تُفسر في ضوء الظروف القائمة وقت التفسير.

 

وما دمنا نستخدم عبارة «القانون الحي» أو «القانون كائن حي»، بما تنطوي عليه هذه العبارة من تشبيه القانون بالكائن الحي، فمن الضروري أن نستعرض خصائص الكائن الحي، بغية بيان مدى توافر هذه الخصائص أو المظاهر في القانون، وصولاً إلى بيان الآليات التي تكفل للنص القانوني حيويته وتطوره ونموه وازدهاره. إذ تتميز الكائنات الحية بخصائص تميزها عن غيرها من الكائنات، مما يجعلها مختلفة شكلياً وبنائياً. وهذه المظاهر هي:

– الحركة وعدم الجمود؛

– النمو؛

– الحاجة إلى طاقة؛

– التكاثر؛

– الأيض؛

– الاستجابة للمؤثرات؛

– التكيف.

 

وإذا كانت هذه الفكرة تبدو مقبولة نوعاً ما في فروع القانون الأخرى، فإن البعض قد يجد غضاضة في قبول تطبيقها في نطاق القانون الجنائي، ولاسيما قانون العقوبات أو القانون الجنائي الموضوعي، ناظرين في ذلك إلى أن هذا القانون محكوم بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وما يرتبه البعض عليه بما أسماه «التفسير الضيق للنصوص الجنائية». والواقع أن ثمة دور خلاق للقاضي الجنائي قد يغفل الكثيرون عنه. وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى بحث أستاذنا الجليل المغفور له بإذن الله تعالى، الأستاذ الدكتور محمود نجيب حسني، عن «الدور الخلاق لمحكمة النقض في تفسير وتطبيق قانون العقوبات.. القسم العام». فعلى هدي المصلحة المحمية بالتجريم، يكفل القاضي الجنائي حماية أوفى لهذه المصلحة. بيان ذلك أن غرض الشارع من نص التجريم هو حماية حق. ولتحقيق هذه الغاية يجرم المشرع الأفعال التي من شأنها الاعتداء عليه. ومن هذه الملاحظة نستطيع أن نستخلص الحقيقة التالية: أن الشارع لا يجرم الفعل لذاته، ولكن يجرمه لأن من شأنه الاعتداء على حق يحميه، وكون الفعل من شأنه هذا الاعتداء هو علة تجريمه. ومن ثم، كان الأسلوب الصحيح في التفسير هو أن يحدد – على نحو دقيق – الحق الذي يخصه نص القانون بالحماية، ثم تحدد الأفعال التي يجرمها الشارع، بحيث يكون الضابط في تحديدها كون شأنها الاعتداء على الحق. والنتيجة الهامة التي يمكن استخلاصها من ذلك أن التجريم يجب أن يمتد إلى كل الأفعال التي من شأنها الاعتداء، وأن تتحقق بينها المساواة في الصفة غير المشروعة طالما أن المساواة بينها متحققة من حيث أنها جميعاً اعتداء على الحق. وإذا ترتب على ذلك أن يعترف للفظ استعمله الشارع بمعنى يختلف عن دلالته اللغوية، فلن يكون ذلك عيباً في التفسير، ولكنه نتيجة لاختلاف اللغة القانونية عن اللغة العادية (راجع: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، وفقاً لأحدث التعديلات التشريعية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الرابعة، سنة 2012م، رقم 600، ص 503). والتطبيقات القضائية لهذا النهج متعددة، ولا تخضع لحصر، ومن شأن إمعان النظر فيها تغيير الأفكار المغلوطة الشائعة عن دور القاضي الجنائي في تفسير وتطبيق نصوص التجريم والعقاب. ومن ناحية أخرى، وعلى حد قول أحد كبار فقهاء القانون الجنائي، أستاذنا الجليل الأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور، «فإن إرادة المشرع التي ضمنها النص ليست مبدأ جامداً محكوماً بالوقائع الاجتماعية المتوافرة وقت وضع النص، بل هي إرادة متطورة بتطور هذه الوقائع الاجتماعية ما دامت تراعي المصلحة الاجتماعية التي كانت وراء النص، ذلك أن هذه المصلحة تبلور إرادة المشرع وتحدد تبعاً لها نطاق تطبيق نصوصه، ولم يصنع القانون من أجل اليوم فقط، بل صنع من أجل المستقبل» (راجع: د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، دار الأهرام للنشر والتوزيع والإصدارات القانونية، القاهرة، الطبعة السادسة (مطورة ومحدثة)، 2014م، رقم 64، ص 136 و137).

 

ومن هنا، تأتي أهمية كتاب «القانون الجنائي الحي»، للمؤلف الدكتور أشرف نجيب الدريني، وتبرز جدوى وفائدة الاطلاع عليه. وهكذا، تبدو الدعوة واجبة إلى القارئ القانوني العربي بضرورة اقتناء هذا الكتاب والاستزادة مما ورد به، متمنياً للمؤلف دوام التوفيق والسداد.

 

زر الذهاب إلى الأعلى