الفصام المرضى بين الكلمات والأفعال (1)
من تراب الطريق (1083)
الفصام المرضى بين الكلمات والأفعال (1)
نشر بجريدة المال الخميس 15 / 4 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يبدو أن الصلة بين الكلمة والفعل، قد باتت تعانى من أسقام عديدة وفصام مزمن، ابتعدت به الشقة كثيراً بين خطاب الكلمة وخطاب الفعل . لم يعد الفصام مقصورًا على تباعد المسافة بين الكلمات والأقوال بعامة، وبين السلوك الفعلي الذي لا يلتزم شيئًا من قيم الدين أو الأخلاق.. ولا على تفشى هذه الظاهرة في دنيا السياسة التي تفتح لنفسها السبل في مناقضة الظاهر للباطن، أو ابتعاد العبارات عن المضمون، متذرعة أحيانا بأنها فن الممكن، وأحيانًا بضغط الحاجة والظروف، وأحيانًا بمقولة مكيافيللى التي تؤخذ كثيرًا على غير معناها « إن الغاية تبرر الوسيلة » !
يتنادى كثيرون بالديمقراطية، ولكنهم لا يمارسونها.. في حياتهم الخاصة أو في حياتهم العامة.. تراها غائبة غيابًا تامًّا في الأحزاب والمنظمات والنقابات والجمعيات والأندية والاتحادات وغيرها !
ويتنادى كثيرون بتداول السلطة، ولكن آراءهم وعيونهم تصاب بالحول إذا تعلق النداء بمواقعهم.. يمسكون ويتمسكون بها حتى الموت، ولا يرون أي بأس في أن يعضوا عليها بالنواجذ حتى آخر نفس من أنفاسهم، ومع ذلك لا يكفون عن التقعر والتنطع بالعبارات الضخمة والألفاظ الفخمة والمبادئ العظيمة في التجدد والتجديد وترك وإتاحة الفرصة للتغيير والتبديل.. ولكن شريطة أن يكون ذلك بعيدا عنهم، فما يصدق على الدنيا بأسرها لا يصدق عليهم، لأنهم مبعوثو العناية الإلهية، طينة خاصة، وعجينة متميزة، وعبقرية لا مثيل لها، وقدرة بلا حدود، وإخلاص بلا نظير.. سوف تتوقف الدنيا، ويخرب عمار الحياة، إذا رحلوا عن المواقع التي يشغلونها !
يتنادى كثير من المتدينين في خطبهم ومواعظهم وكتاباتهم، بقيم عامرة مضيئة من الدين في السواء واللين والرفق والسماحة والصدق والأمانة والإيثار، بينما هم بعيدون كل البعد في حياتهم وسلوكهم ومواقفهم وأفعالهم عن كل هذه القيم التي يجيدون عرضها والتحدث بها، ولكن لا يستلفتهم ولا يعنيهم قط العمل بها !
يتكلم كثيرون ويتشدقون بحرية الفكر وحرية الرأي ووجوب احترام قيمة الكلمة وحق النقد، يطرحون ذلك ويلحون به في المقولات أو المقالات أو الخطب أو المرافعات، ولكن إذا مسهم شىء من ذلك الذي يتنادون به ويستعرضونه، انتفضوا وهبوا ونفرت عروقهم وورمت أصداغهم واتهموا حرية الفكر والرأي بأنها إسفاف، وحق الحساب والنقد للأعمال والتصرفات، بأنه سباب وشتائم.. مع أن نقد الأعمال ليس سبًّا ولا شتمًّا . اللافت أنهم ينزلقون إلى هذه المتناقضات الزاعقة المتنافرة دون أن يروا ما فيها من قبح ودمامة ومخالفة للعقل والمنطق وما يتشدقون به من مبادئ وقيم ومصكوكات ومقولات !
من سنوات كتبت عن تراجع إحساسنا بالجمال، وقلت إن الأخطر منه عدم التفاتنا إلى القبح.. حتى بتنا نستسيغه ونمتصه ونعاود إفرازه وترويجه دون أن نعى أو نحس . هذا القبح ليس فقط القبح المادي المتبدي في الأبنية والطرقات وفي الإلقاء بالقاذورات ودهس وتقطيع الحدائق والزهور واجتثاث الأشجار والتحرش بالإناث وربما بالذكور وكسر النظام وإهانة وانتهاك الحرمات، وإنما بالتوازي معه توجد حزمة ضخمة من القبح المعنوي المتجلي في مجافاة القيم وضِعة السلوك واستسهال الفحش وانعدام الكرامة وانفصام السلوك والأفعال عن الأقوال والكلمات . هذا الانفصام شر كبير جدًّا، أصابنا في مواضع عديدة تجلى طفحها في ابتعاد العمل والفعل والسلوك عما يقال في الخطب الدينية والمقالات الأدبية أو الصحفية والمرافعات القضائية، دون أن يهتز جفن ولا رمش من يتناقض قوله وقلمه وخطـبه ومرافعاته، عما يفعله أو لا يلتزم به في حياته !
كيف يتنادى متنادٍ بحرية الرأي والنقد، ويملأ الدنيا تصايحًا بها ودفاعا عنها، بينما يسرع إلى اتهام كل من ينتقد أعماله، بالسب أو بالقذف في حقه.. يقف في بعض الدعاوى متشدقًا مدافعًا عن الحرية، ويسارع بآخرين إلى الاتهام والمحاكم بأنهم متطاولون خارجون عن حدود القانون لمجرد أنهم مسوا ذاته المصونة بالاجتراء على نقد أفعاله وأعماله أو الإخبار الصحفي الواجب عنها !