العودة إلى المحاماة !

العودة إلى المحاماة !

نشر بجريدة الوطن الجمعة 28/8/2002

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

الاختلاف بين الناس سنة كونية، تحدث عنها القرآن الكريم، فقال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (هود 118)، يرد هذا الاختلاف على أهل الفكر كما يرد على الفقراء منه، ويرد على أهل العلم كما يرد على الجهال، وربما كان أكثر ورودًا لدى العاملين بالمقارعة بين الحجج، ومن ثم فهو غير مستغرب بين رجال القانون بعامة، والمحامين بخاصة، فهم مشغولون على الدوام بالرأي والحجة، وفى ذلك كثيرًا ما يقع الخلاف أو الاختلاف !

كل ذلك لا بأس عليه، بل هو ظاهرة صحة، غير أنه قد طرأ على المجتمع، مفردات جديدة فارقت أدب الخطاب وأدب الحوار وأدب الاختلاف، وطبيعي أن تمتد هذه الظاهرة ـ وقد امتدت ـ إلى فئات المجتمع بعامة، إلاَّ أن هذه الظاهرة بلغ من تلوثها استخدام أبشع وأقذع وأحط المفردات في الإساءة إلى الآخرين، وإهانتهم، وبلا أي انشغال بالرأي أو الحجة أو الدليل، وإنما صار السب سبًّا لذاته ، واحتراف الإساءة والإهانة احترافًا لذاته ، واستخدام أحط الألفاظ وأقذعها بما في ذلك المساس بالأعراض ـ عادة متبعة لدى من نضب علمهم  وافتقر منطقهم وانحط سلوكهم إلى مهوى غاية في الانحطاط والبذاءة.

من أسفٍ توجد لذلك مدرسة ـ إن جاز التعبير ـ أشاعت هذه السلوكيات، واقتحمت علينا المحاماة، فهان لدى البعض السب والقذف بل والطعن في الأعراض !

من أين جاء هذا الغثاء الغريب إلى المحاماة، رسالة الأدب والفكر والرأي والبلاغة والبيان ؟!

انقطع من سنوات ما بين النقابة وبين المحاماة، وتوقفت من سنين عددًا مجلة المحاماة التي كانت تصدر شهرياً بملاحقها كل شهر لتيسر للمحامي الاطلاع على أحدث الأحكام والقوانين والقرارات ومعها مقالات وبحوث لكبار المحامين والفقهاء وأساتذة القانون، ثم هجمت الأغراض الانتخابية على معاهد المحاماة، وعلى التقاليد والأعراف، فحجبت الاستعانة التي كانت بكبار أساتذة المحاماة والقانون، وقدمت للتدريس من يحتاجون إلى تلقيه، وانقطع من سنين الاهتمام بتوفير المكتبات التي كانت شائعة سلفًا على مستوى المحاكم الجزئية، شاملة أمهات الكتب لكبار علماء وأساتذة القانون، فضلاً عن أمهات الكتب الأدبية، في الوقت الذى بلغت فيه الكتب أسعارًا فلكية يعز على الشيوخ اقتنائها ناهيك بالشباب وهم في أول الطريق، فتعثر تأهيل شباب المحامين، وساهم في هذه الإعاقة عدم تقديم حل جدي حقيقي قابل للتطبيق لتيسير تمرين كريم للمحامي وإعداده للتأهل للمرحلة التالية في القيد أمام المحاكم الابتدائية، وتقديمه إلى مجتمع المحاماة مزودًا بالعلم والتطبيق والتقاليد التي تجعله أهلاً لحمل رسالة المحاماة !

ما أصاب العمل في نقابة المحامين هم ثقيل، غاب التطوع بمعناه الجاد الذي عرفناه، وصارت المصالح الشخصية هي الغاية والهدف والأساس، وانفرط وسط هذا الانحصار المريض في المصالح الصغيرة ـ انفرط عقد إدارة الموظفين والعاملين ، واستشرى فساد تحدثت به الركبان، ولفت أنظار المحامين، وأضج مضاجعهم، إلاَّ هيئة المنتفعين من هؤلاء وأولاء، وكانت الطامة الكبرى أن اتخذت الشعارات الرنانة مدخلاً للتغول على حقوق المحامين، والعبث بمقدراتهم، والتحكم فيهم وفى عملهم، تحكمًا حماه استبدادٌ كمم الأفواه أو اشتراها، وصارت الأمور من سيء إلى أسوأ، وطال العبث مصائر المحامين في عملهم، فوضعت أمامهم متاريس تعسفية، وسُلطت عليهم مقصلة إسقاط العضوية أو الشطب أو الزوال، في الوقت الذى غابت فيه مظلة الحماية للمحامين في مباشرتهم لأعمالهم ، وقبل القائم على أمور النقابة من سنين عددًا إضافة فقرة بالنص الدستوري ونص القانون، تفرغ ضمانة المحامي من أي مضمون، حين استبعدت الإضافة «حالة التلبس»، باشتراطها للضمانة ألا تكون هناك «حالة التلبس»، بينما هذه الحالة محل للادعاء بها في أي عمل يباشره المحامي سواء في ساحة المحكمة، أو بغرفة التحقيق، أو بمحاضر الشرطة.. الضمانة مقرره للمحامي في مباشرته كل هذه الأعمال، وفرض لها القانون خطوات خاصة لحماية المحامي حتى لا يتعرض أداؤه لرسالته للضغط أو التقليل، وغنى عن البيان أن اشتراط «حالة التلبس»، ترخيص مغلوط لإهدار كل ضمانات المحاماة والمحامي.

وبلغ من سوء التحكم وسوء المعايير المتخذة للقيد أو الشطب، أن ضبطت من سنوات راقصة بملابس عارية في أحد ملاهي البحر الأحمر، وكانت المفاجأة عند تحرير المحضر أنها تحمل بطاقة محامية مقيدة أمام المحاكم الابتدائية !!!

ترى أين كانت ضوابط القيد التي شُدت شدًّا على المحامين حتى صودرت بها أرزاقهم ــ أين كانت هذه الضوابط والقيود حين اجتازت تلك الراقصة ـ من سنوات ـ حاجز الشروط المقررة والمطلوبة لقيد من يبدأ أولى خطواته فى هذه المهنة الجليلة ؟!.. وأين كانت النقابة والمذكورة المقيدة بجداولها ـ تباشر الرقص وهز الوسط بدلاً من تلقى العلم والتمرين الذى أوجبه قانون المحاماة ؟! وكيف جرى قيد الراقصة للمرافعة أمام المحاكم الابتدائية، وما هي المسوغات التي قدمتها للانتقال من القيد بجدول المحاكم الجزئية إلى جدول المحاكم الابتدائية ؟! .. هل قدمت عدد «الرقصات» و«العروض» خلال السنتين اللتين جعلهما قانون المحاماة حدًا أدنى للقيد ابتدائيًا، وشريطة التقدم بعدد محدد من التوكيلات الرسمية ومن محاضر الجلسات التي تثبت ما حضره المحامي من جلسات أمام المحاكم، وهى وغيرها شروط لازمة لرفع درجة القيد إلى المحاكم الابتدائية !

ظني أن الراقصة المتهمة من سنوات بارتداء ملابس فاضحة أثناء الرقص، لا بد تقدمت بتوكيلات ومحاضر جلسات وإلاّ ما رفعت درجة قيدها، فهل روجعت المستندات التي قدمتها للاستيثاق من مطابقتها للحقيقة وسلامتها من الاصطناع، وهل بذلت النقابة آنذاك الرعاية الواجبة للمحامين تحت التمرين ؟ وإذا كان الحال أنها فرطت في واجب التأهيل والتمرين.

وإصدار مجلة المحاماة وإمداد شباب المحامين بها مع المراجع القانونية، فهل فرطت أيضًا في واجبها متابعة السلوك ضمانًا لاستقامة الأداء واتقاءً للانحراف والجنوح وتوفيرًا لحسن السيرة والسمعة  !!

ماذا حدث ؟!

هذا هو بعض الحصاد المرّ والحتمي لأداء نقابي امتد لسنوات؛ بالغ الهبوط والتردي والسوء.. أَخَذَ النقابة والمحاماة بعيداً بعيداً عن قيمهما ومبادئهما ورسالتهما.. اللعبة الصغيرة التي أديرت بالنقابة على مدى سنوات، ضربت وطعنت المحاماة في الصميم.. ظني أنه يقع الآن على أجيال المحامين مهمة كبرى بل مقدسة لإعادة الروح وبث الوعي وقيادة بعث جديد للتقدم به إلى المحاماة!

زر الذهاب إلى الأعلى