العدالة الناجزة
بقلم: الأستاذ/ عبد الفتاح أحمد
نتوقف أمام المادة 97من الدستور المصري المعدل 2019 حيث نص فيه أن التقاضي حق مصون ومكفول للكافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي، وتعمل على سرعة الفصل في القضايا، ويحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، والمحاكم الاستثنائية محظورة.
ونقف عند الفقرة التي تلزم الدولة بأن تكفل سرعة الفصل في القضايا، ونتساءل في أمانة وتجرد وقلق ــ هل أوفت الدولة بالتزامها ؟ ثم ما هو معيار السرعة المطلوبة للفصل في القضائي؟
تجيب المحكمة الدستورية العليا على ذلك في حكم لها بقولها إن ضمانة سرعة الفصل في القضايا المنصوص عليها في المادة 97 من الدستور، غايتها أن يتم الفصل في الخصومة القضائية ــ بعد عرضها على قضاتها ــ خلال فترة زمنية لا تجاوز باستطالتها كل حد معقول، ولا يكون قصرها متناهيا، ذلك أن امتداد زمن الفصل في هذه الخصومة دون ضرورة، يعطل مقاصدها، ويفقد النزاع جدواه، فإذا كان وقتها مبتسرا، كان الفصل فيها متعجلا منافيا حقائق العدل.
حيث أن بعض القضايا في المحاكم قد يستغرق نظرها والفصل فيها فترة زمنية تجاوز باستطالتها كل حد معقول حيث يستطيل أمد التقاضي ــ بغير أسباب جدية ــ إلى ما يجاوز المعقول والمألوف والمحتمل، ويستغرق أحياناً بقية عمر المتقاضي حتى يوافيه أجله ثم يستكمل ورثته من بعده رحلة المطالبة بحقوقه التي قصرت حياته عن الحصول عليها.
إن بطء التقاضي ومشقة معاناة أصحاب الحقوق في استئدائها يورثهم إحساسا مدمراً بالعجز، ويهز إيمانهم بالعدل ويضعف ثقتهم في القضاء، ويوهن انتماءهم للوطن الذي لم يكفل لهم سرعة الفصل في أقضيتهم كما ألزمه الدستور.
استطالة إجراءات التقاضي ــ بلا مبرر ــ تهزم عقيدة المؤمنين بأن الحقوق لا تسقط، ولا تضل الطريق إلى أصحابها، وتهدم الشعار السائد بأنه لا يضيع حق وراءه مطالب، ويعصف بالأمل في استرداد الحق الذي استلب من صاحبه حال حياته، وينشر اليأس في النفوس، ويصيبها بلسعة المرارة في الحلوق.
وان تأخير الحكم بالعدل نوع من الظلم وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالأمر بسرعة إيصال الحقوق إلى أصحابها، وكان الخلفاء يوصون القضاة بذلك، فقد ورد في كتاب عمر بن الخطاب إلى معاوية – رضي الله عنهما -: “وتعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا…” (أخبار القضاة لوكيع 1/75).
وتأخير الفصل في القضايا المنظورة فيه مفاسد كثيرة منها تأخير انتفاع صاحب الحق بحقه وأيضاً زيادة إثم الظالم مدة بقاء الحق في ذمته. وأيضاً بقاء الضغينة بين الخصوم مدة التقاضي، وسرعة الفصل يبعدها أو يخففها.
ومن أسباب هذه الظاهرة كثرة التشريعات وتشابكها وأحياناً غموضها وربما تناقضها ــ وتعقيد الإجراءات وأيضاً ضخامة أعداد القضايا المتداولة أمام المحاكم ــ وقلة عدد القضاة والإداريين وأيضاً التجاء الخصوم إلى استغلال الثغرات القائمة في بعض التشريعات لتأخير الفصل في الدعاوى – ضرورة إخضاع الموظفين لدورات مكثفة لتحديث معلوماتهم واطلاعهم على الجديد وتنمية المعلومات القانونية
ومن المقترحات التي قد تساعد مراجعة كافة التشريعات وتنقيتها ــ زيادة عدد القضاة المؤهلين للفصل في القضايا مع الأخذ بنظام القاضي المتخصص ــ تنظيم التقاضي بوضع ضوابط ومعايير لحالات الخصومة القضائية تضمن الجدية عند رفع الدعاوى دون مصادرة لحق التقاضي ذاته وأيضاً تطوير أبنية المحاكم لكى تكون مؤهلة للتقاضي – وزيادة أعداد الموظفين الإداريين والفنيين في المحاكم بما يتناسب مع عدد القضاة – واستخدام التقنيات الحديثة التي عرفها العالم كله ويتم تطبيقها وتوفير الأجهزة الإلكترونية المناسبة في المحاكم وتجديدها باستمرار لمواكبة التكنولوجيا الحديثة باستمرار.
فإذا كانت الأسباب معروفة، والحلول موجودة فهل لنا أن نبدأ، وأن نعمل، لأن تأخير حصول المواطن على حقه أو عجزه عن نواله يقوده إلى البحث عن بدائل حين يفقد أمله في قضاء عادل وسريع، وقد يكون ضمن هذه البدائل انتزاع حقه بنفسه بالقوة أو بالعنف، بغير الالتجاء إلى القضاء، وبوسيلة أخرى تفجرها نوازع الشر، ومشاعر اليأس، والإحساس بالضياع وقبل ذلك كله ضراوة الشعور بالظلم لأن العدالة التي تأتى بعد موعدها بطيئة متراخية متخاذلة هي الظلم بعينه.