العدالة الشعبية الرقمية
مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني
هل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي بديلاً عن المحاكم؟ هل يمكن لمنشور أو مقطع فيديو أن يُحدد مصير شخص قبل أن تُتاح له فرصة الدفاع عن نفسه؟ كيف تحوّل الجمهور من متابع إلى قاضٍ ومنفذ للعقوبة في آنٍ واحد؟ ولماذا لم تعد الأحكام القانونية كافية، فأصبح المتهم يُعاقب مرارًا وتكرارًا عبر إعادة نشر قضيته بلا نهاية؟
في عالم تُختزل فيه الأحداث إلى مقاطع قصيرة ومشاركات سريعة، باتت العدالة الرقمية سلاحًا مزدوجًا، قد يُستخدم لكشف الجرائم وتسليط الضوء على القضايا المهملة، لكنه في كثير من الأحيان يتحوّل إلى أداة للعقاب الجماهيري غير المنضبط، حيث يُدان الأشخاص اجتماعيًا قبل أن يحظوا بمحاكمة عادلة. فهل يمكن اعتبار هذه الظاهرة تقدمًا في مسار تحقيق العدالة، أم أنها خطرٌ يُهدد مبدأ “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”؟ وهل يمكن أن تُصبح العقوبة غير محدودة، حيث يُعاقب الشخص بلا نهاية حتى بعد استيفائه للعقوبة القانونية؟
هذه الأسئلة تُحتم علينا التوقف عند ظاهرة العدالة الشعبية الرقمية، ليس فقط لفهم تأثيرها على الأفراد، بل لاستيعاب الخطر الذي تُشكله على النظام القانوني بأكمله. كيف يمكن وضع حدود لهذه الظاهرة؟ وهل هناك وسائل لحماية الحقوق دون إنكار دور التكنولوجيا في كشف الحقائق؟ الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب نظرة متأنية في أبعاد الظاهرة وتداعياتها، وهو ما سنناقشه في هذا المقال.
العدالة لم تكن يومًا محكومة بعواطف الجماهير أو خاضعة لسلطة الرأي العام، بل هي منظومة قانونية تستند إلى قواعد وأسس تُوازن بين حقوق الأفراد والمصلحة العامة. غير أن ظهور العدالة الشعبية الرقمية قلب هذه المعادلة، حيث تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة مفتوحة لمحاكمات جماهيرية تصدر أحكامها فورًا، دون انتظار للتحقيقات أو الالتزام بضمانات العدالة! لم يعد المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته، بل أصبح مجرد ظهوره في فيديو متداول أو ارتباط اسمه بقضية ما كفيلًا بإدانته أمام ملايين الأشخاص، حتى قبل أن يُتاح له الدفاع عن نفسه أمام القضاء.
هذه الظاهرة لا تقتصر على تسريع إصدار الأحكام، بل تمتد إلى خلق نوع جديد من العقوبات يتجاوز الحدود التقليدية للقانون. في المحاكم، يواجه المتهم إجراءات قانونية محددة، وإن أُدين، فإنه يقضي فترة عقوبته وفقًا لما يقرره القاضي، ثم يُفترض أن يعود للحياة الطبيعية. أما في عصر “العدالة الرقمية”، فإن العقوبة تتحول إلى سجن اجتماعي دائم، حيث لا يُطوى الملف حتى بعد تنفيذ العقوبة القانونية، بل يظل المتهم محاصرًا بماضيه بسبب إعادة نشر المحتوى المرتبط بالقضية مرارًا وتكرارًا، مما يجعله يدفع ثمن فعلته أضعافًا مضاعفة، وقد يستمر ذلك لسنوات وربما مدى الحياة.
في بعض الحالات، لا يقتصر الأمر على المتهم فقط، بل يمتد إلى الضحية نفسها. حين تُنشر مقاطع فيديو تتعلق بجرائم اعتداء أو تحرش، قد تجد الضحية نفسها في موقف لا يقل قسوة عن الجريمة الأصلية، حيث تتحول قضيتها إلى مادة للتداول الإعلامي، مما يعيد فتح الجرح النفسي مع كل إعادة نشر للفيديو. في بعض الحالات، اضطرت الضحايا إلى تغيير أماكن سكنهن أو الانسحاب من الحياة الاجتماعية بسبب الضغط الناجم عن انتشار هذه المقاطع، مما يُحول “العدالة الرقمية” إلى أداة جديدة لانتهاك “حقوق الإنسان”، بدلاً من أن تكون وسيلة لإنصافه!
ولا تقتصر المشكلة على الأفراد المتورطين في القضايا، بل تمتد إلى النظام القانوني نفسه. عندما يتدخل الرأي العام بقوة في قضية ما، قد يجد القضاة أنفسهم تحت ضغط غير مباشر لاتخاذ قرارات تتماشى مع مطالب الجماهير، حتى لو لم تكن الأدلة القانونية كافية للإدانة. في بعض الحالات، قد تؤدي الضغوط الشعبية إلى التعجيل في إصدار الأحكام، مما قد يُلحق الضرر بسير العدالة، ويجعل المحاكمات أقرب إلى رد فعل جماهيري منها إلى تحقيق قضائي متزن.
ومن ناحية أخرى، التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب أكثر من مجرد الاعتراف بوجودها، بل يحتاج إلى وضع إطار قانوني صارم ينظم تداول المحتوى الرقمي المتعلق بالقضايا الجنائية. بعض الدول بدأت بالفعل في سن قوانين تحظر نشر محتوى يؤثر على سير التحقيقات أو ينتهك خصوصية الأفراد، كما فرضت عقوبات على التشهير والتحريض عبر الإنترنت. هذه الخطوات قد تساهم في الحد من الظاهرة، لكنها وحدها لا تكفي. لا بُد من تعزيز الوعي المجتمعي حول مخاطر العدالة الرقمية، وتوضيح أن تحقيق العدالة لا يتم عبر “التريندات” والمنشورات العاطفية، بل عبر المحاكم والقوانين التي تضمن حقوق الجميع.
ختامًا، العدالة لا يمكن أن تكون رهينة لردود الفعل اللحظية أو لضغط الرأي العام، بل يجب أن تبقى في إطارها القانوني الصحيح، حيث تتاح الفرصة لكل الأطراف للدفاع عن أنفسهم وفقًا لمبادئ العدالة. استمرار هذه الظاهرة يعني أننا سنعيش في مجتمع لا تحكمه القوانين، بل تحكمه العاطفة والانفعالات اللحظية، وهو ما يُشكل خطرًا حقيقيًا على الحقوق والحريات، إذا أردنا تحقيق عدالة حقيقية، فعلينا أن نُعيد القضاء إلى ساحته الطبيعية، بعيدًا عن المحاكمات الجماهيرية التي لا تُنصف أحدًا، بل تخلق ظلم جديد باسم الإنصاف. والله من وراء القصد.