العدالة الجنائية الناقصة

مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني

متى سنكفّ عن سؤال: كيف نعاقب الجريمة؟ ونبدأ في طرح السؤال الأخطر: لماذا وقعت أصلًا؟! ولماذا نترك الإنسان يقترب من حافة الانهيار، ثم نحاسبه حين يسقط؟ وهل العدالة الجنائية هي عدالة ما بعد الكارثة، أم كان يفترض بها أن تكون “عقل الدولة” قبل أن تكون قبضتها؟ وهل يكفي أن نرفع سقف العقوبة كي نقنع أنفسنا بأننا أدّينا واجبنا الأخلاقي والقانوني؟ هذه الأسئلة لا تُطرح للمزايدة على فكرة العقاب، فالعقوبة ضرورة لا جدال فيها، والردع العام والخاص ركن أصيل في أي مجتمع منظم. لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن تتحول العقوبة إلى “اللغة الوحيدة”، وكأن القانون لا يعرف الإنسان إلا حين يخطئ، ولا يراه إلا داخل قفص الاتهام!

إن التجربة – لا التنظير المجرد- تثبت أن معظم الجرائم لم تكن حتمية الوقوع، بل كانت قابلة للمنع لو وُجدت سياسة وقائية حقيقية، تتعامل مع الإنسان قبل أن يتحول إلى متهم، ومع الضحية قبل أن تتحول إلى رقم في ملف. فالوقاية ليست شعارًا إنشائيًا، بل ممارسة يومية تبدأ من المدرسة، ومن الأسرة، ومن الخطاب العام، ومن وعي الدولة بأن الأمن الحقيقي لا يُبنى بالعقوبة وحدها.

خذ مثلًا جرائم التحرش بالأطفال داخل المدارس. كم حكمًا صدر؟ وكم عقوبة شُددت؟ ومع ذلك، كم طفلًا تعرّض للأذى قبل أن تتحرك العدالة؟ الوقاية هنا لا تحتاج إلى نصوص زجرية جديدة، بقدر ما تحتاج إلى تدريب المعلمين، وتثقيف الأطفال بحقوقهم، وآليات واضحة للإبلاغ الآمن، وحضور نفسي واجتماعي داخل المؤسسات التعليمية. كل طفل نُقذ من التحرش هو جريمة لم تقع، وعدالة تحققت دون محاكمة، وألم إنساني لم يُكتب.

والأمر ذاته ينطبق على جرائم القتل بين الأزواج، تلك الجرائم التي غالبًا ما تُختزل في لحظة انفجار، بينما جذورها تمتد سنوات من العنف الصامت، والإهانة، والضغوط الاقتصادية، والجهل بآليات الدعم. كم زوجة قُتلت وكان يمكن إنقاذها لو وُجدت منظومة إنذار مبكر؟ وكم زوج تحول إلى قاتل لأنه لم يجد منفذًا قانونيًا أو اجتماعيًا يخفف احتقانه قبل أن يتحول إلى جريمة؟ الوقاية هنا تعني مكاتب إرشاد أسري حقيقية، وتدخلًا مبكرًا عند العنف، وثقافة قانونية تجعل طلب المساعدة قوة لا ضعفًا.

وهنا يجب أن يُطرح السؤال بوضوح: هل دور الدولة أن تعاقب فقط، أم أن تحمي قبل أن تُضطر إلى العقاب؟ هل نريد عدالة تُتقن الحساب بعد الجريمة، أم سياسة جنائية حكيمة تُقلل من عدد الجرائم أصلًا؟ إن الاستثمار في الوقاية ليس ترفًا ماليًا، بل هو أقل كلفة من السجون، وأعمق أثرًا من العقوبات، وأكثر انسجامًا مع الكرامة الإنسانية التي يفترض أن تكون جوهر أي نظام قانوني.

والوقاية لا تُقاس بنتائج فورية، وهذا ما يجعلها غير جذابة سياسيًا في كثير من الأحيان، لكنها تُقاس على المدى البعيد بمجتمع أقل عنفًا، وأقل خوفًا، وأكثر ثقة في القانون. فالقانون الذي لا يُرى إلا عند العقاب، يُخيف الناس، أما القانون الذي يُرى في الحماية، فيحظى بالاحترام.

ولشارع القانون، من قضاة وأساتذة ومحامين، فإن الرهان الحقيقي ليس فقط على سلامة التطبيق، بل على توسيع أفق التفكير الجنائي ذاته. فالتشدد العقابي دون وقاية هو اعتراف ضمني بفشل السياسات الاجتماعية، وتحميل للقضاء ما لا يحتمل. العدالة لا تُقاس بعدد الأحكام، بل بقدرتها على أن تكون الملاذ الأخير، لا الوسيلة الأولى.

إن أعظم انتصار للسياسة الجنائية ليس حكمًا مشددًا، بل جريمة لم تقع، وضحية لم تُصنع، وأسرة لم تُدمّر. والعقوبة، مهما كانت عادلة، لا تعيد الحياة، ولا تمحو الصدمة، ولا تُصلح ما انكسر في الداخل الإنساني. أما الوقاية، فهي العدالة التي تعمل في صمت، وتحمي دون ضجيج، وتُنقذ دون أن تطلب تصفيقًا.

وفي الخاتمة، لا بد من القول بوضوح: العقاب ضرورة، نعم، لكنه يظل شهادة على إخفاق سابق. أما الوقاية، فهي شهادة على وعي الدولة ونضج المجتمع. وإذا كانت العدالة الجنائية هي عقل القانون، فإن الوقاية هي قلبه النابض. ومن دون هذا القلب، يتحول القانون إلى نص بارد، والعقوبة إلى فعل متأخر، والمجتمع إلى ساحة خسائر متكررة، ندفع ثمنها إنسانيًا قبل أن ندفعها قانونيًا. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى