العدالة الجنائية المنتجة
بقلم د. أشرف نجيب الدريني
هل يمكن أن تظل العدالة الجنائية حبيسة قاعات المحاكم، لا يتجاوز أثرها إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات؟ وهل يجوز أن يُختزل دور النيابة العامة في مجرد تحريك الدعوى الجنائية، بينما تُترك المضبوطات والأموال المصادرة بلا إدارة رشيدة حتى تفقد قيمتها وتتحول من ثروة إلى عبء؟ أليست هذه صورة أخرى من صور الإهدار، لا تختلف في جوهرها عن جرائم الاختلاس أو الرشوة التي تهدر المال العام بشكل مباشر؟
هذه الأسئلة تضعنا أمام حقيقة لم يعد من الممكن تجاهلها: العدالة لا تكتمل بمجرد معاقبة الجناة، بل تكتمل حين يُعاد إدماج ما استُرد من ثروات في دورة الحياة الاقتصادية لصالح المجتمع. فالقانون الجنائي لم يُخلق ليكون نصًا جامدًا أو سيفًا مسلطًا، بل ليحيا في الواقع ويعكس قيم المجتمع واحتياجاته، وليضمن أن ما وقع في يد الدولة من أصول لا يُترك عرضة للتلف أو الضياع. فالمضبوطات، مهما تنوعت بين عملات أو عقارات أو معادن نفيسة، لا ينبغي أن تبقى حبيسة المخازن إلى أن ينهكها الزمن، بل يجب أن تتحول إلى موارد فاعلة تدعم الخزانة العامة وتحقق منفعة عامة ملموسة.
إن التجربة الافتراضية تكشف لنا وجهين متناقضين: الأول يتمثل في ترك الأموال المصادرة لعقود حتى تتآكل قيمتها، والثاني يتمثل في تحويلها منذ البداية إلى موارد اقتصادية، كأن تُحوَّل المعادن إلى سبائك أو تُستثمر العقارات أو تُعاد الأموال السائلة إلى الدورة المالية. الفارق بين الوجهين ليس ماليًا فقط، بل أخلاقي وإنساني أيضًا، إذ يعبّر عن فلسفة الدولة في إدارة مواردها وحماية ثرواتها. فحين يُهدر المال بفعل الإهمال الإداري، فإن المجتمع يتلقى رسالة سلبية مفادها أن العدالة غير مكتملة. أما حين يُدار المال بحكمة ويُعاد إلى مسار التنمية، فإن المواطن البسيط يستشعر أن العدالة تحيا من أجله، وأن القانون لا يقتصر على الردع بل يسعى إلى الإصلاح والبناء.
تجارب بعض النظم المقارنة تعزز هذا التوجه، ففي فرنسا تُدار الأموال المصادرة من خلال هيئة متخصصة هي الوكالة الفرنسية لإدارة واسترداد الأصول المصادرة والمجمّدة (AGRASC)، التي أُنشئت بموجب القانون رقم 2010-768 المؤرخ في 9 يوليو 2010، وتُنظم مهامها أحكام قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي (انظر نصوص المواد المتعلقة بإدارة واسترداد الأصول). هذه الوكالة تتولى إجراءات تقييم وبيع أو استثمار الأصول المصادرة أو المجمّدة بما يضمن إدخال قيمتها إلى الخزانة العامة أو إعادة توجيهها لمنفعة عامة محددة. وفي بريطانيا يمثل قانون عائدات الجريمة لعام 2002 (Proceeds of Crime Act 2002 – POCA) الإطار التشريعي المحوري لمصادرة وإدارة عائدات الجريمة؛ وقد أنشأ القانون في بداياته هيئة Asset Recovery Agency (ARA) لنمذجة استرداد الأصول، وانتقلت لاحقًا مهام إدارة الأصول والردع إلى هيئات إنفاذ أوسع مثل Serious Organised Crime Agency ثم National Crime Agency (NCA)، كما أسهمت آليات تشريعية وإجرائية ببرامج لإعادة إدماج الأموال المصادرة في الاقتصاد الوطني (مثل آليات تشجيع استرداد الأصول). تكشف هذه النماذج أن العالم يتجه إلى اعتبار إدارة الأموال المصادرة جزءًا أصيلاً من فلسفة العدالة الجنائية الحديثة، إذ لم تعد المصادرة هدفًا نهائيًا بل أداة لإحداث أثر اقتصادي واجتماعي إيجابي.
وفي هذا السياق يطرح العقل القانوني سؤالًا جوهريًا: كيف نضمن ألا يتكرر الإهدار مرة أخرى؟ الجواب لا يكمن في قرارات وقتية أو اجتهادات فردية، بل في بناء منظومة مؤسسية راسخة. هنا تبرز الحاجة إلى إنشاء إدارة متخصصة داخل النيابة العامة لإدارة الأصول الجنائية. إدارة ليست شكلية، بل ذات طابع اقتصادي–جنائي، تعنى بحصر المضبوطات وتقييمها والتصرف فيها وفق آليات شفافة وقواعد قانونية واضحة. وجود مثل هذه الإدارة يعني أن النيابة العامة لا تقف عند حدود سلطة الاتهام، وإنما تتحول إلى حارس مالي على موارد الدولة، فتمنع ضياعها وتحولها إلى قيمة مضافة.
وعلى المستوى الإنساني، فإن المواطن لا يشعر مباشرة بأحكام السجن أو الغرامة، لكنه يلمس أثر العدالة حين يرى الأموال المستردة وقد تحولت إلى مدارس أو مستشفيات أو خدمات عامة. هذه اللحظة هي التي تُعيد الثقة في القانون، وتمنح العدالة معناها الحي، لأنها تخاطب حاجات الناس اليومية بقدر ما تُخاطب الفكر القانوني. إنها عدالة تجمع بين الردع والإصلاح، بين القصاص والبناء، بين مصلحة الدولة ووجدان المجتمع.
وحين نعود إلى التساؤلات الأولى نجد أن الخيط قد اكتمل: نعم، النيابة العامة يمكن أن تكون فاعلًا اقتصاديًا بقدر ما هي سلطة جنائية. نعم، إهدار الموارد بالإهمال يعادل في خطورته الاعتداء عليها عمدًا. نعم، التصرف الرشيد في المضبوطات قد يشكل عقوبة اقتصادية غير تقليدية تحقق الردع العام والخاص في آن واحد. والأهم من ذلك كله أن العدالة ليست نصوصًا جامدة ولا عقوبات صماء، بل هي روح حية تحيا حين تُدار ثروات المجتمع بعقلانية، وتخاطب الفكر والوجدان معًا، فتحمي المال العام من عبث الأفراد ومن غفلة المؤسسات، وتعيد للمجتمع يقينه بأن القانون يعمل لصالحه، وأن العدالة ليست بعيدة عن حياته اليومية بل جزء أصيل من نبضه وكيانه. والله من وراء القصد.