الصبر والإيمان

من تراب الطريق ( 1254 )

نشر بجريدة المال الأحد 6/2/2022

ـــ

بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

 

تأملت كثيرًا ـ ولا أزال ـ فى مطلع أغنية الصبر والإيمان ، كلمات حسين السيد ، التى غناها محمد عبد الوهاب  ـ فى خمسينيات القرن الماضى ، ومنع بثها بالإذاعة بعد شهور من ظهورها حتى أوائل سبعينيات القرن الماضى .

لم يكن ذلك هو سبب تأملاتى فيها اليوم ، وإنما استوقفنى« عالم الحرمان » الذى يعيش فيه كل مظلوم أو معدوم أو مأزوم أو ممتحن و متعوس ، بحيث لا يبقى أمامه متنفس إلاَّ الإيمان  والصبر .. لا شىء على الإطلاق يمكن أن يخفف وجيعته ويسرِّى عنه ويسانده ليمضى ولا ينهار ـ سوى الإيمان والصبر . وأنعم بهما من جنة فعلاً يلوذ بها كل مظلوم أو مقهور أو مصدوم أو محروم أو ممتَحَن أو متعوس .. فلا بقية أمامه ليعيش سوى الإيمان بالله ، والصبر على ما أصابه ويصيبه من مكروه .

لا يعنينى باقى كلمات الأغنية التى من أجلها مُنِعت ـ سياسيًّا ـ قرابة العشرين عامًا حتى أُفرج عنها . وإنما يشدنى فقط شطرها الأول .. دعنى أقول إنه قد صار دنياى التى فيها أعيش الآن ، فلا ملاذ ـ ناهيك بالجنة أو السعادة ـ لمن يلاقى ما ألقاه .. ألاقى عناءً وأتحمّل سخافات وإساءات بل وسفالات غاية فى البذاءة ، يقال إنها ضريبة يتحملها كل مصلح ، فيعاديه الفسدة والمتجمدون ، ويتطاول عليه السفهاء والسفلة الذين لم يتلقوا تربية تجعل لانفلاتاتهم سقفًا .. مهما أدار المصلح ظهره ، فإن السفالة والبذاءات سوف تصله بنحو أو بآخر ، تثير من الأسى والامتعاض ما تثيره ، وتحرك الأشجان على ما تتلقاه الشجرة المثمرة من قذائف وأحجار .. يزداد أساها حين يكتفى الأخيار وأصحاب المسئولية ، بالفرجة ، ويلوذون بالصمت باعتباره واحة الأمان التى تقى من التعرض للمتاعب ، حتى قال قائل من الزمن الأول : « إذ اضطرمت الفتنة فى البلاد ، ورمت النجاة فكن إمّعة » وسادت هذه القالة حتى تصدّى لها الحديث الشريف : « لا يكن أحدهم إمّعة ، يقول أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، وإنما وطّنوا أنفسكم  إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم » . ولكن هل يكفى تجنب الإساءة ؟ إن محض التجنب بطلق الحبل على الغارب للمسيئين ، فليس أرجى لهم من موقف التجنب والسكوت عن التصدى لمفترياتهم ولإساءاتهم .

أعود لباقى معانى هذا الشطر من الشعر الذى أثار تأملاتى ، فيما يصيب الإنسان من ابتلاءات لا تنتهى ، ولكن منها ما يكون شديد الوقع قوى الوطأة ، حين تتعرض الحياة نفسها إلى الضربات القاصمة .. فى النفس أو فى من فى حكم النفس كفلذات الأكباد .. هل أمام الإنسان إلاَّ الإيمان والصبر ، وعفوا لترتيب الكلمتين على غير ما جرت الأغنية ، فظنى أنه لا يمكن أن يتحقق صبر ، إلاَّ فى أحضان الإيمان .. الإيمان هو الملاذ الحقيقى ، وما الصبر والجلد واحتمال البلاء ، إلاَّ منح ونفحات ـ هذا الإيمان ، إن غاب غاب مع غيابه كل صبر وكل جلد واحتمال !

هذا الإيمان ، هو الذى طفقتُ أتأمل فيه لدى النبى الأمّى عليه الصلاة والسلام ، حين خرج وحده بمفرده ، تحت جنح الليل ، وحيدًا بلا رفيق ، إلاّ إيمانه بالله عز وجل ، وبالرسالة التى بعث لتبليغها ، ماشيًا على قدميه ، قاصدًا الطائف ، يعانى مع الوحدة هجير الصحراء وقيظ الشمس اللافح ، حتى يضطر للمسير ليلاً والبحث نهارًا عن أى ظل يستطيع أن يغفو تحته قليلاً .. يا لهذا النبى الصابر المحتسب ، ما يكاد يصل إلى الطائف بعد المشقة البالغة التى احتملها فى الطريق ، لا لشىء ولا مغنم ولا مقصد ، إلاَّ أن يبَلّغ كلمة ربه ، ويهدى الناس والضالين منهم إلى سبل الهداية فى رحاب واحدٍ أحدٍ هو ربُّ العالمين .

يا لهذا الإيمان ، الذى أفرز كل هذا الصبر والجلد . ما يكاد عليه الصلاة والسلام يشرف على الطائف ، حتى استقبله السفهاء والغلمان ، بالقذائف والأحجار ، لا يرفع رجلاً إلاَّ رضخوها بالأحجار ، كلما أذلقته الحجارة ، قعد على الأرض ، فيأخذون بعضديه ويقيمونه ، فإذا مشى يرجمونه وهم يتضاحكون ساخرين مستهزئين ، لا يستطيع ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يستخلص نفسه منهم إلاَّ بمشقة بالغة ، فيخلص إلى حائط بستان وظل نخلة وهو موجع مخضب القدمين ، يبكى ويناجى ربه  ..

يا لهذا الإيمان ، الذى به صبر على رحيل كل ذريته  ـ عدا الزهراء ـ فى حياته .. بناته الثلاث تباعًا ، وطفله إبراهيم الذى أمل فيه عوضًا ، فاختطفه الموت فى لحظات .. ألم يوصينا القرآن الكريم بأن يكون لنا فى رسولنا ـ عليه الصلاة والسلام ـ الأسوة الحسنة .. لا أتداول هذه المعانى فى صفحة وجدانى وأنا أستعرض فصول ما ألاقيه ، إلاَّ وأتذكر دعاءه عليه الصلاة والسلام فى الطائف ، حين استند إلى سور جدار يبكى ، ويناجى ربه ..

«  اللهم إليك أشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربى ، إلى من تكلنى ، إلى بعيد يتجهمنى ، أو قريب ملكته أمرى ، إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى ، بيد أن عافيتك هى أوسع لى . أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بى غضبك أو تحل علىّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلاّ بك ! »

استعدت وأستعيد دومًا هذه الكلمات ، وأذكر معها أن نبى البر والرحمة لم ينه دعاءه بها ، وإنما قال لربه عز وجل : « بيد أن عافيتك هى أوسع لى » ..

آن لى أن أضع القلم  ، وأن ألوذ بجنتى : الإيمان والصبر ، متذكرًا ما ختم به الرسول عليه الصلاة والسلام ..

إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى ، بيد أن عافيتك هى أوسع لى .

زر الذهاب إلى الأعلى