الشهادة في التحريات
بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني ـ محاضر في كليات الحقوق بالجامعات المصرية
التحريات تجرى بمعرفة الشرطة في مرحلة جمع الاستدلالات، وهي مرحلة تسبق تحريك الدعوى الجنائية، وقد أَطلق الفقه الفرنسي قديمًّا عليها (التحقيق التمهيدي)، بالتالي لا تتم بِناءً على إذنٍ من جهة التحقيق، ولذلك تملك الأخيرة أن تقضي فيها بعد إجرائها أمرًا بحفظ الأوراق، وهو إجراء إداري لا يحمل حجية قضائية بالمقارنة بالأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية، والتحريات بحسب الأصل تكون بِناءً على شكوى أو بلاغ يقدم لمأمور الضبط القضائي، إلّا إذا طلبت سلطة التحقيق أو محكمة الموضوع تحريات عن واقعة معينة.
وقد جرى العمل على خلط التحريات بالشهادة، فالتحريات هي حصيلة معلومات حول واقعة من وجهة نظر مُجريها، ولا ترق إلى دليلٍ، بينما الشهادة دليل من أدلة الإثبات القولية، والتي شملها المشرع في قانون الإجراءات الجنائية بمجموعة ضوابط، ولا سيما حلف اليمين للتذكرة بالإله الأعظم وما أنت مُقبل عليه، علاوة على توافر الأهلية وبلوغ سن معين وقت مشاهدة الواقعة ووقت الإدلاء بالشهادة عليها.
فكيف للمحكمة أن تستند لها كدليلٍ، وهي لم تُحلف ضابط الواقعة أو شاهد الإثبات على صدق أقواله، ومن أين تعلم المحكمة أن مأمور الضبط القضائي قد أجرى التحريات بنفسه، وكيف للمحكمة وهي الخبير الأعلى أن تتثبت من صلاحية شاهد الإثبات للشهادة على الواقعة، فهو ناقل إن صدق وقوله يحتمل الصدق والكذب والصحة والبطلان، ولا يعدو إلّا أن يكون استدلالًا وليس دليلًا تبني عليه الأحكام، وهو موقف محكمة النقض، فهو يحتاج إلى دليل ليُعضد (أقوال) مجري التحريات.
ولا يقدح في ذلك ادراج اسم مجري التحريات في قائمة الشهود، فهو ليس بشاهدٍ، بل جامع للمعلومات والبيانات والأقوال عن الواقعة، فلو علم مُجري التحريات الآثار المترتب على (المشتبه فيه) بعد تحوله إلى (متهمٍ) بِناءً على ما كتب، ما سطر حرفًّا ولا أمسك قلمًّا، إلا بالحقِ بعد تأنٍ وتحرٍ وتدقيقٍ، فالعاقبة لا تقتصر على المتهم، بل تمتد إلى سمعة العائلات والأُسر، فقد ينتقل المتهم إلى رحمة مولاه وتظل السمعة السيئة تطارد أُسرته أمد الدهر.
وقد جاء عن رب العزة على لسان نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا السلام “وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِۦ ۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسْـَٔلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱلَّٰتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ”. فلما جاءه رسول الملك يدعوه قال يوسف عليه السلام للرسول: ارجع إلى سيدك الملك، واطلب منه أن يسأل النسوة اللاتي جرحن أيديهن عن حقيقة أمرهن وشأنهن معي، لتظهر الحقيقة للجميع، وتتضح براءتي، إن ربي عليم بصنيعهن وأفعالهن لا يخفى عليه شيء من ذلك. فلم يفرح الصديق عليه السلام، بالخروج من سجن الملك، قبل أن تأتي براءته من المجتمع.
وعطفًا على ما سبق، فقد حظر المشرع على مأمور الضبط القضائي استجواب المتهم، كضمانةٍ من ضمانات التحقيق الابتدائي، فكيف يسمح له أن يُخط بيدهِ دليلًّا تأخذ به المحكمة وتعول عليه في الإثباتِ، فهذا تناقض صارخ، بين هذا وتلك، علاوة على حق الدفاع أثناء التحقيق في طلب عدم حضور مأمور الضبط القضائي خشية التأثير على إرادة المتهم بالوعد أو بالوعيد أو بالإكراه، فكيف تستقيم شهادة شاهد يُستبعد من الاستجواب وحضور التحقيق الابتدائي؟
وفي نهاية الأمر كان هذا المقال للوقوف أو للتذكرة بمدى خطورة التحريات كعملٍ من أعمال مرحلة جمع الاستدلالات، لعل المشرع يلتفت إليه، لرأب صدع الظلم والافتراء، فخير للعدالة أن يفلت ألف مجرم من العقاب على أن يُدان بريء واحد.