الشرق الفنان (25)
من تراب الطريق (1127)
الشرق الفنان (25)
نشر بجريدة المال الخميس 24/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ها قد أشرفت على بلوغ الشاطئ وتوديع هذا الكتاب أو الكتيب للعلامة الفيلسوف الأديب زكى نجيب محمود، ولعله واجب علىّ وأنا أخط سطوره الأخيرة، أن أعتذر إلى القارئ عن مشقة الرحلة التي أخذته إليها، ولكن شفيعى أننا نحتاج إلى الجهد والمشقة كيما ننمو نموًّا حقيقيًّا، وهو نمو تحتاجه الأجيال القادمة بقوة، حتى لا تأخذها الوجبات السريعة الجاهزة، إن صح أنها وجبات، بعيدًا عن أعمدة بناء الشخصية، وإنماء العقل ومعه العلم والمعرفة. وشفيعى الثانى أننى أحسست أن هذا العلامة الفيلسوف العملاق ـ يكاد ينطمر وتنطمر أعماله وسط الجديد الخفيف الزاحف، ولولا ما طبعته دار الشروق من كتبه لانطمر ذكره ومؤلفاته وفكره، فغلبتنى أطماعى إلى المزيد كيما أدق الأجراس لنلتفت إلى هذا النابغة العملاق.
على مشارف الشاطئ الأخير، توقف الدكتور زكى نجيب محمود ليقول لنا خلاصة حصاد الرحلة التي أبحرنا فيها معه.
تاريخ الفكر في الغرب ـ إلاَّ أقله ـ هو تاريخ العقل النظرى.
وتاريخ الفكر في الشرق ـ إلاَّ أقله ـ هو تاريخ الإدراك الصوفي والحاسة الجمالية.
فللغرب نزعة عقلية منطقية علمية إلاَّ ريثما يثور على نفسه.
وللشرق نزعة روحانية تصوفية فنية إلاّ ريثما يثور على نفسه.
وهاتان النزعتان تتجاوران متكاملتين في الشرق الأوسط.
ففي الغرب الذي يتميز بالعقل النظرى أكثر مما يتميز بالحدس المباشر الذي يرى الحقيقة رأسًا بغير وساطة الأدلة وخطوات الاستنباط، في هذا الغرب نفسه من الفلاسفة من ينهضون للحد من سلطان العقل لكى يُتاح للإدراك الحدسىّ أو إن شئت فقل الإدراك الوجدانى، أن يدرك من الحقائق ما ليس في وسع العقل وحده أن يدركه، ويسوق لذلك مثلا « هنرى برجسون » الذي راعه أن يلقى الناس بزمامهم إلى العقل دون غيره، فينتهوا إلى إثبات ما يثبته العقل وإنكار ما ينكره، على حين أنه يصلح لشىء ولا يصلح لشىء آخر ؛ ولا بد من وسيلة إدراكية أخرى ندرك بها بواطن الأمور ما دام العقل مقتصرًا في إدراكه على ظواهرها، وهذه الوسيلة الأخرى هي « الحدس » المباشر.
فبالحدس يدرك الإنسان الكل جملة واحدة، وبالعقل يدرك الأجزاء ـ وما يينها من علاقات، بالحدس يدرك ماهية الشىء وجوهره من حيث هو كائن موجود لذاته وبذاته، وبالعقل يدرك أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بينه وبين سائر الأشياء.
ولكن هل بمقدور العقل وحده أن يفي بكل ما نحتاج إليه ونريده ؟!
لا مراء في أنه في مقدور العقل أن يفهم الحقائق الساكنة، والتي تدوم على حالة واحدة بعينها.
ولكن في الحياة تيارٌ آخر جارف سيال فوق مستطاع العقل في إدراكه، وإنما في مقدور العقل أن يتناول مركَّبًا فيحلله إلى أجزائه ثم يركبه « وهكذا » ما دامت أجزاء المركب باقية على حالها بغير زيادة تضيف إليها ولا نقص يأخذ منها !
ولكن الحياة ليست على هذا السكون وهذا الثبات، بل في صيرورة دائمة، دائبة السير على مرّ الزمن، وتظل تضيف إلى نفسها الجديد في كل لحظة ؛ فإن أراد العقل أن يفهم الحياة أو مرّ الزمان، أفلتت منه هذه الإضافات التي تستجد في كل لحظة.
لو كان العقل هو وحده أداة المعرفة، ولا أداة سواه، لما أدركنا فهم الحياة، ولبقيت أمامنا سرًّا مغلقًا خافيًا.
ولكن إذا كانت الحياة تأبى أن نكشف عن سرها لذكاء العقل وحده، فإنها تسفر عن نفسها للبصيرة أو الحدس أو اللقانة.
دلالة ذلك أن الثقافة الشرقية بشتى نواحيها من دين أدب وفن وفلسفة ـ تعبيرات تخرج ما يضطرب في النفس والوجدان.
على حين أن الثقافة الغربية، بكل ألوانها من علم وفلسفة وفنون ـ لا تخلو أبدًا من الرمز إلى ما هو كائن خارج النفس بكل ما فيها من جيشان.
يقول الدكتور زكى نجيب محمود:
« فكأنما الفنان الشرقى حين يصور لك شيئًا فإنما يريد لك أن تقف عند المادة المعروضة لذاتها وفي ذاتها، لأنها هي نفسها الحق كله، وأما الفنان الغربى ـ وأعيد هنا مرة أخرى أننى أستثنى الثورة الأخيرة في الفن الغربى ـ فيعرض لك أثره الفنى لا لتستمع به في ذاته ولذاته، بل لتنقل بعد ذلك من الأثر إلى المؤثر، من الصورة إلى المصوَّر، من الرمز إلى المرموز إليه، كأن الصورة الفنية عنده ضرب من الكلام العلمى الذي يقال ليدل على أشياء تقع خارج الكلام نفسه ؛ فهي ليست مكتفية بذاتها لأنها ليست هي الحق كله، إنما يكملها الطرف الآخر الخارجى الذي جاءت الصورة لتصوره وتشير إليه ؛ فلو توسعنا في القول بحيث نقول إن الرمز ـ كائنًا ما كان ـ إذا أُريد به أن يشير إلى مرموز إليه، كانت المنفعة هي أساس استخدامه، وأما إذا أُريد به أن يكون نهأية في ذاته ولا يرمز إلى شىء سواه، كانت النشوة الجمالية هي أساس استخدامه، أقول إننا إذا أطلقنا القول على هذا النحو الواسع، جاز لنا أن نقول إن ثقافة الغربى هي ثقافة المنتفع وثقافة الشرقى الأصيلة هي ثقافة المخمور بعاطفته المنتشى بوجدانه، فالأولى هي ثقافة العالم، والثانية هي ثقافة الفنان ».