الشرق الفنان (21)
من تراب الطريق (1123)
الشرق الفنان (21)
نشر بجريدة المال الأحد 20/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يفسر ويكمل ما سبق عن النظرة الشرق الأوسطية في إطار الفلسفة الإسلامية والتي فصلنا فيها الحديث ــ بعض التفصيل الوجيز ــ عن حضور ووضوح الطابع المنطقي العقلي في تناول موضوعات الفلسفة الإسلامية، وما أجملناه بعبارة أو بإشارة إلى ما ينضم إلى هذا الطابع ــ من قلب المتدين ووجدان الفنان.
فإن تتمة ما ألمحنا بالعبارة الأخيرة إليه، إنما تتضح إذا ما أبدينا إلى أنه إلى جانب الفلسفة الإسلامية القائمة على منطق العقل، فإن هناك جماعة المتصوفة المسلمين، وهم يلجأون في معرفة الحق ـ عز وجل ــ إلى شيء غير العقل ومنطقه. إذ يلجأون إلى الحدس المباشر، ويتوسلون لذلك بدمج أنفسهم في الحق دمجًا يتيح لهم أن يشهدوه شهودًا مباشرًا، وأن يتذوقوه. وهذا ما سلف أنه سليقة ووسيلة الفنان في الإدراك.
ها هو المتصوف الكبير « ذو النون » المصري ( المتوفي 859 م )، يقول في عبارة صريحة: « إن المعرفة الحقيقية بالله… ليست من علوم البرهان والنظر، التي هي علوم الحكماء والمتكلمين والبلغاء، ولكنها معرفة صفات الوحدانية التي لأولياء الله خاصة، لأنهم الذين يشاهدون الله بقلوبهم، فيكشف ــ سبحانه ــ لهم ما لا يكشفه لغيرهم من عباده ».
كذلك يقول:
« المعرفة الحقيقة بالله هي أن ينير اللهُ قلبك بنور المعرفة الخالص… ».
« والعارفون بالله فانون عن أنفسهم، لا قوام لهم بذواتهم، وإنما مقامهم من حيث ذواتهم بالله، فهم يتحركون بحركة الله، وينطقون عن الله بما يجريه على ألسنتهم، وينظرون بنور الله في أبصارهم ».
وهكذا ترى « ذا النون » ـ جريًا على سنة المتصوفة جميعًا ــ يجعل الإدراك دمجًا للذات العارفة في الموضوع المعروف، فلا يكون هناك إلاَّ حق واحد: « فيه اتحد الإنسان بالله، إذ تفنى ذاتية الإنسان بزوال صفاته البشرية جميعًا، بحيث لا يكون له بعدئذ بقاء إلاَّ بما قد أفنى نفسه فيه من صفات الله ــ وتلك حالة شديدة الشبه بحالة « النرفانا » التي سبق الحديث عنها حين تحدثنا عن الشرق الأقصى، بأن الفرد الناظر بحدسه المباشر إلى محيطه الكوني، إنما ينمحي فيه انمحاءً تامًّا، فينمحي تبعًا لذلك وهمه بأن له وجودًا حقيقيًا خاصًا به.
ولمن شاء كذلك أن يقرأ « تائية » عمر بن الفارض ( ولد بالقاهرة 1182 م وتوفي بها 1235 م ) التي ترقى إلى أن تكون آية من آيات الأدب الصوفي في العالم كله، فهو في هذه القصيدة العصماء يتكلم بلسان الصوفي الذي وصل إلى مقام « الاتحاد »، وفيها يصف فناء ذاته في محبوبه ( الذات الإلهية ) بأنها حالة تتجرد فيها النفس من رغباتها وميولها وبواعثها، بحيث تتعطل إرادتها وتموت، فإذا ماتت الإرادة أصبحت النفس طوع الإرادة الإلهية تحركها كيف تشاء، وهذا هو حب الله لها، ولكن المحب والمحبوب يكونان شيئًا واحدًا، فيتحد العابد والمعبود، والعاشق والمعشوق في شخصية واحدة:
كلانا مصَلٍّ ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
صلاتي لغيرى في أدا كل ركعة
* * *
فلا حىَّ من حياتي حياته
وطوع مرادي كل نفس مريدة
ولا قائل إلا بلفظي محدِّثٌ
ولا ناظر إلا بناظر مقلتي
ولا منصت إلا بسمعي سامع
ولا باطش إلا بأزلي وشدتي
ولا ناطق غيرى ولا ناظر ولا
سميع سوائي من جميع الخليقة
وهكذا عبر ابن الفارض عن الحالة الصوفية « التي يفنى فيها العبد عن صفاته البشرية ليتحقق وجوده بصفات الربوبية ».
ولا ينى الدكتور زكى نجيب محمود عن الدخول إلى عالم الحلاج. فيدعو إلى قولته المشهورة « أنا الحق »، تلك القالة التي صاغ بها مذهبه في وحدة الوجود صياغة مختصرة واضحة، فهوى يرى أن الإنسان « إذا ما طهر نفسه وصفَّاها بأنواع الرياضة والمجاهدة والزهد، وجد حقيقة الصورة الإلهية التي طبعها الله فيه، لأن الله خلق الإنسان على صورته، وهو في ذلك يقول: تجلى الحق لنفسه في الأزل، قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق، وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه ولا حروف، وشاهد سبحات ذاته في ذاته، وفي الأزل ــ حيث كان الحق ولا شيء معه ــ نظر إلى ذاته فأحبها وأثنى على نفسه، فكان هذا تجليًا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف وكل حد، وكانت هذه المحبة علة الوجود والسبب في الكثرة الوجودية، ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلاً، في صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل، وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه وهي آدم الذي جعله الله صورته أبد الدهر، ولما خلق الله آدم على هذا النحو عظمه ومجده واختاره لنفسه، وكان من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه هو هو ».