الشرق الفنان (20)
من تراب الطريق (1122)
الشرق الفنان (20)
نشر بجريدة المال الخميس 17/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يعتقد فيلسوفنا الأديب، الدكتور زكى نجيب محمود، أن التفكير الفلسفي في أمة من الأمم ـ مفتاح عام لفهم طبيعتها. فليس من باب المصادفة أن الفلسفة الفرنسية عقلية، والفلسفة الإنجليزية تجريبية حسية، والفلسفة الألمانية ميتافيزيقية مثالية، والفلسفة الأمريكية براجمانية عملية.
فماذا نرى في الفلسفة الإسلامية مما يدلنا على طابع الشرق الأوسط ؟
ترى المشكلات المعروضة للبحث في الفلسفة الإسلامية ـ أنها مشكلات دينية، بيد أن طريقة معالجتها طريقة عقلية منطقية.
فلا فرق إطلاقًا فيما يرى ـ بين فلاسفة الشرق الإسلامي من جهة، وفلاسفة الغرب المسيحي في العصور الوسطى ـ من جهة أخرى. لا في نوع المشكلات، ولا في منهج البحث، فيما عدا أن الفريق الأول يختار مشكلاته من العقيدة الإسلامية، والثاني مسيحي يختار مشكلاته من العقيدة المسيحية.
بيد أن كلا من الفريقين، يلتمس للعقيدة أساسًا من العقل، مستعينًا في ذلك بأدوات من الفلسفة اليونانية، وبالمنطق الأوسطي على وجه الخصوص.
فالمعتزلة مثلاً ـ فريق من المتكلمين أصحاب علم الكلام الإرهاص الأول للفلسفة، يصطنعون منهج العقل في التفكير وتأويل المراد تأويله من مسائل العقيدة. مثال ذلك أن حرية إرادة الإنسان تعنى أنه الذي يخلق أفعاله ومن ثم فهو مسئول عنها.. فعلها أو تركها.
وتراهم ينهجون في إقامة الدليل العقلي ـ النهج الذي يضع المقدمات ويستدل على النتائج، يتمثلون لذلك بأن سلوك الإنسان في حياته ليس كله من صنف واحد. منها ما هو مضطر إليه بالشعور بها في حركات جسده، ومنها ما يشعر أن زمامها في يده. من النوع الأول حركة المرتعش مثلاً، ومن النوع الثاني كل حركة إرادية تنشد عملاً ما. ولو كان الفرد مجبرًا لا سلطان له على مسلكه، لما كان هذا الفرق بين النوعين، ولما كان التكليف بالأمر والنهي، أو العمل والترك. ولما كان هناك معنى للثواب والعقاب ! ولما كان هنا له فائدة من اصطفاء وتكليف الرسل والأنبياء لهداية الناس وإصلاحهم، فلو لم يكونوا يمتلكون إرادتهم، ويستطيعون الطيب والكريه، لما كانت هناك غاية من التكليف، ومن ثم من الحساب، والثواب والعقاب. ذلك أن أساس التكليف حرية الاختيار والقدرة عليه، ولا تكليف بغير قدرة على الاختيار والتنفيذ.
وحين ننظر إلى « الفلاسفة » المسلمين، نقرأ لهم منهجًا عقليًّا منطقيًّا كهذا الذي رأيناه عند المعتزلة، فنرى الكندي مثلاً ـ يشرح العقل الإنساني وقواه فيحلله تحليلاً منطقيًّا إلى أربع درجات: ثلاث منها فطرية في النفس، والرابعة مكتسبة جاءت من الخارج، ومن ثم فهي مستقلة تستطيع أن تفارق النفس لتقوم بذاتها.
إنك لترى في مثل هذا التحليل الذي بسطه ـ نظرية عقلية منطقية تحليلية، وليس تعبيرًا فيه اللمسة الجمالية وحدها.
ويتخذ الأستاذ الدكتور من الفارابي مثالاً آخر لتناول المسائل، وإقامة البرهان المنطقي على وجود الله، فيقول: إن كل موجود جاء بعد أن لم يكن، لابد أن يكون قد سبقته علة هي سببت وجوده، وهذه العلة لابد وأنها بدورها نتيجة لسبب سابق لها، هكذا حتى نصل إلى علة أولى لم تسبقها علة أخرى، وإنما هي التي سببت نفسها. إذ بغير هذا الفرض سنظل ننسب كل علة إلى علة أخرى سابقة لها إلى ما لا نهاية، وهذا التسلسل إلى غير نهاية مستحيل على العقل تقبّله؛ ومن ثم فإن العلة الأولى هي الله عز وجل، ومعرفته هي الغاية من الفلسفة، فغاية الفلسفة فهم الوجود، فإذا ما عرفت الله، فقد عرفت العلة الأولى أو علة العلل، وتعرف أنه تعالى ليس كسائر الأنواع، ولست بحاجة إلى صفة له كتلك الصفة التي تفصل أو تميز بين الأنواع، فهو المثل الأعلى. واحد. كامل. قادر، إلى آخر الصفات التي تصفه سبحانه وتعالى.
والوجود ضربان: وجود واجب، أي أنه لا يمكن في حكم العقل ألاّ يكون، ووجود ممكن، أي أن العقل يتصور إمكان وجوده وإمكان عدم وجوده.
والله تعالى واجب الوجود، لأن العقل يستحيل أن يتصور سلسلة من العلل بغير علة أولى.
وكل شيء آخر غير الله ـ ممكن الوجود وليس واجب الوجود. وهو ممكن الوجود لأن العقل يتصور وجوده وعدم وجوده على السواء.
وبعد…
أترى هذا السياق معبرًا أو صادرًا عن عقل منطقي، أم تراه تعبيرًا عن شعور ووجدان ؟ أتراه محكم الحلقات نتائج ومقدمات، أم تراه قفزات من قول إلى آخر بغير صلة ولا رباط ؟
دعني أقول لك مقصد الأستاذ الدكتور زكى نجيب محمود. أن الطابع المنطقي العقلي حاضر في الشرق الأوسط مثل حضوره في العقل الغربي، ولكن يضاف إليه في الشرق الأوسط قلب المتدين ووجدان الفنان !