
السياسة الجنائية الوقائية
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
ما الذي يجعل بعض الدول تعبر إلى واقع أمني مستدام، بينما تتخبط أخرى في دوامة الجريمة والعنف؟ لماذا ننتظر وقوع الجريمة كي (نستيقظ)؟! ولماذا تتحرك مؤسسات المجتمع فقط بعد أن تكون جراح الضحايا قد سالت، واهتزت الثقة العامة، وتضرّر النسيج الاجتماعي؟ أليس من الأوجب أن نُفعل (شبكة أمان) اجتماعية- قبل أن نحتاج إلى “عصا” القانون بعد الكسر؟
إن الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون أن الجريمة لا تبدأ في لحظة ارتكابها، بل في تربة مهملة: تربية فاشلة، كبت اجتماعي، إهمال نفسي، بيئة إعلامية تُسوّغ العنف، أو مجتمع تفتقر فيه مؤسساته الوقائية. في هذه اللحظة الأولى، تصبح العقوبة وحدها- مهما بلغت شدتها- غير كافية، لأنها لا تعيد ما فُقد من إنسانية، ولا تشفي جروح ضمير. لذا، فإن التدابير الوقائية تكتسب قيمة مركزية؛ لأنها تصون المجتمع قبل أن يُشكل الجاني، وتمنع الجريمة قبل أن تقع، وتحوّل العدالة من مجرد رد فعل إلى مشروع حضاري شامل.
في العديد من التجارب الدولية الحديثة، تُفسَّر العدالة الجنائية ليس فقط بالجزاء، بل بالإصلاح والإدماج. فهناك نظم سجون تُركز على إعادة التأهيل (rehabilitation) والدمج الاجتماعي بدل العقاب القاسي، وتحقق من بين أقل معدلات العودة إلى الجريمة (recidivism) في العالم. ففي هذه النظم، لا يُعامل السجين كعدو يُعزل إلى الأبد، بل كإنسان أخطأ تُمنح له فرصة إصلاح، والتأهيل، والعودة للمجتمع بكرامة. هذا النموذج لا يُظهر فقط رحمة إنسانية، لكنه عملي أيضًا، لأنه يثبت أن استثمار المجتمع في الإنسان يثمر حماية مجتمعية حقيقية قبل أن تتحول الأخطاء إلى جريمة.
وتطبيق العقوبات البديلة (alternative sanctions / non‑custodial measures) على الجرائم منخفضة أو متوسطة الخطورة يوضح أن المجتمع لا يرى السجن كحل أول، بل كملاذ أخير، ويتيح للفرد فرصة الإصلاح دون أن يفقد مستقبله، مع تعزيز شعوره بالمسؤولية والانتماء. كما أن التدخل المبكر (early intervention) في المراهقين والفئات المعرضة للخطر، من خلال برامج تعليمية، وإرشاد نفسي، ومراكز مجتمعية، يقلل بشكل ملموس من معدلات الانحراف والجريمة، ويمنح المجتمع فرصة لتصحيح المسار قبل وقوع الضرر.
لكن الوقاية لا تتوقف عند المؤسسات الرسمية فقط؛ فهي تمتد إلى شبكة مؤسساتية مجتمعية متكاملة. تبدأ بالأسرة، التي تزرع القيم والأخلاق، وتستشعر الطفل منذ نعومة أظافره، وتضع أول حدود للانحراف. تتكامل المدرسة لتغرس حس المسؤولية والانتماء، وتعلم قواعد التعايش السليم. ويأتي المنبر الديني- في المسجد أو الكنيسة- ليغذي الروح بالقيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية، ويعيد للضمير البوصلة الصحيحة. والإعلام، بدوره، يصبح أداة قوية إذا التزم بأخلاقيات المهنة، فهو قادر على تشكيل الوعي وتعزيز احترام القانون، أو العكس إذا تغلّبت الإثارة على المسؤولية. كذلك مؤسسات المجتمع المدني، التي تدعم الفئات الضعيفة، وتسد الفجوات التي لا يستطيع القانون وحده معالجتها، وتمنح الفئات المهمشة فرصًا للبقاء ضمن سياق اجتماعي سليم.
وهنا يبرز القانون كعنصر جامع، لا مجرد أداة للمعاقبة، بل كإطار استراتيجي ينسّق كل هذه القوى: من حماية الأسرة إلى برامج الوقاية المبكرة، ومن متابعة وسائل الإعلام إلى دعم مشاريع المجتمع المدني، وصولًا إلى العقوبات البديلة وإعادة الدمج، بحيث تصبح السياسة الجنائية جهدًا استباقيًا يهدف إلى منع وقوع الجريمة قبل وقوعها، وليس مجرد رد فعل بعد ارتكابها.
وفي ضوء كل هذا، تتضح الحقيقة الأساسية: أعظم انتصار للعدالة ليس أن تُملأ السجون، بل أن تفرغها. فالوقاية ليست خيارًا ثانويًا، بل هي قلب العدالة، وهي البنية التحتية لمجتمع آمن ومستدام. والنجاح الحقيقي لا يقاس بعدد المجرمين المحكوم عليهم، بل بعدد الأرواح التي لم تنحرف، والمجتمعات التي لم تُمزق، والضمائر التي لم تفقد بوصلتها.
وهكذا، ينتهي المقال بخلاصة واحدة: العدالة الجنائية الحقيقية لا تُصنع في قاعة المحكمة، بل في عمق المجتمع، حيث تُصان القيم، وتُبنى المناعة الأخلاقية، وتُزرع الوقاية قبل أن يصبح الانحراف واقعًا، بحيث يصبح القانون خيارًا أخيرًا، لا أولًا، في حماية الإنسان والمجتمع على حد سواء. والله من وراء القصد.