السلطة القضائية بين الدور السياسي والاشتغال بالسياسة (3)
بقلم: أ.محمد شعبان
الدور السياسي للقضاء – بالمفهوم السابق تناوله في المقالين السابقين – يختلف كل الاختلاف عن الإشتغال بالسياسة في مفهومة التقليدي، والذي عبر عنه المشرع في نصوص قانون السلطة القضائية من خلال حظر الاشتغال بالسياسة على القضاة.
فحظر الإشتغال بالسياسة موقوف على ممارسة مطلق العمل السياسي سواء عن طريق الإنضمام إلى أي من الأحزاب أو الجماعات السياسية، أو العمل تحت لوائها بأي شكل من الأشكال، أو الترشح للإنتخابات النيابية، أو تولي وظيفة من وظائف الدولة السياسية، فمثل هذه الأمور مما لا يجوز على القضاة الجمع بينها وبين وظيفتهم القضائية لِمَا لذلك من آثار خطيرة على مبدأ الفصل بين السلطات سينعكس على مقومات الدولة الديمقراطية.
والجدير بالذكر أن الإشتغال بالسياسة يختلف كل الاختلاف عن ممارسة بعض الحقوق المدنية والسياسية في المطلق، فلئن كان الاشتغال بالعمل السياسي هو في حقيقته ممارسة لبعض هذه الحقوق، على اعتبار أنه موقوف على تمتع الشخص بها وأهليته لمباشرتها. إلا أن هناك بعض الحقوق السياسية التي لا يمكن أن يدرج استعمالها تحت مصطلح “الاشتغال بالسياسة” بالمعني المذكور سلفاً كما، هو الحال في استعمال الحق في التعبير وإبداء الرأي والذي لم يحظر على القضاة منه؛ إلا ما يقدح في حيدتهم وتجردهم وينال من استقلالهم في نظر جمهور المتعاملين مع السلطة القضائية، وهو الأمر الذي دأبت الأعراف والتقاليد القضائية المتواترة على حظر الجهر به وليس حظره بالكلية.
وقصر الحظر علي الجهر بالرأي على هذا النحو يُفهم منه أنه تم في إطار الحفاظ على الحيدة كاحد ضمانات سيادة القانون التي نص عليها الدستور.
والجهر بالرأي في الأمور ذات الطبيعة السياسية المحظورعلى القضاة مقصورٌ على الأمور ذات الطبيعة السياسية بامتياز، كتلك المرتبطة بالسياسات العامة للدولة وأداء الحكومة، والأمور ذات الصلة بمسئولية الحكومة وعلاقتها بالبرلمان الذي انعقد له الاختصاص – وحده دون غيره – ببحث مدى توافر هذه المسئولية واتخاذ اللازم حيال من تثبت مسئوليته عن أي خطأ سياسي، فهذه الأمورُ جميعُها لا يجوز للقضاة أن يجهروا برأي فيها تأييداً أو معارضةً، لكون ذلك مما قد يقدح في حيدتهم وتجردهم التي قد تجعلهم عرضةً للملامة من معارضين الرأي الذي جهروا به، وهو ما من شأنه أن يؤثر في سلامة أدائهم لدورهم القضائي المُنْصب على تحقيق العدل من منظور القانون لا من منظور السياسة.
والجدير بالذكر أن الجهر بالرأي المحظور على القضاة ليس محظوراً إلا فيما ينال من الحيدة والتجرد اللذان فُرض الحظر – استثناء – للحفاظ عليهما. ومن ثم فإذا ما جهر القضاة برأيهم فيما فيه تعبير عن صيانة استقلالهم، كما هو الحال على سبيل المثال:عند مناقشة بعض القوانين المنظمة لأي شأن من شئونهم أو القوانين المكملة للدستور أو تلك المنظمة للحقوق والحريات المنوط بهم حمايتها، أو عند مناقشة أمرٍ من الأمور المرتبطة بالسياسة العامة للدولة والمسئولة عنها وزارة العدل – بوصفها الوزارة المعهود بها الإشراف على مرفق العدالة وإدارة دور المحاكم والنيابات – ويكون ذا صلة وثيقة بدورهم ووظيفتهم الدستورية، فإنه ليس في ذلك ما يتنافي مع الحيدة والتجرد، بل إن استعمال حق التعبير في هذا المقام يُعد من مقتضيات النهوض بالدور السياسي المنوط بالقضاء كسلطة دستورية في الدولة. إلا أن ذلك كله مشروط بأن يخرج في الإطار الذي يحفظ على القضاة هيبتُهم واستقلالُهم وحيدتُهم وتجردُهم، فالقضاة الذي يبدون الرأي في مشروعات القوانين في المحافل القضائية والقانونية لا يمكن القول بقيامهم بالإشتغال بالعمل السياسي، حتى وإن ارتبطت هذه القوانين ببعض الاعتبارات السياسية، لأن التعبير ليس مقصوداً منه تأييد رأي سياسي معين أو مناهضته، وإنما التعبير مَحِلُه هو الدستور والقانون ومقتضيات المصلحة العامة التي تنهض السلطة القضائية وتسهر على حمايتها، بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى والتي إن تم تناولها على هامش النقاش فلن يكون ذلك إلا في إطار بحث الحالة الواقعية التي دعت الشارع إلي التدخل لاصدار القانون.
وبهذا تغدور التفرقة بين الدور السياسي للقضاء واشتغال القضاة بالسياسة سبيلان منفصلان لا يجتمعان ولا يلتقيان، وتغدو أية محاولة للربط بينهما تقزيما لدور السلطة القضائية كسلطة دستورية من السلطات الثلاثة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي في الدول الحديثة.
انتهى بفضل الله
والله من وراء القصد