السلطة القضائية بين الدور السياسي والاشتغال بالسياسة (2)

بقلم: محمد شعبان “وكيل النائب العام سابقاً”

إذا اعترفنا بالدور السياسي للسلطة القضائية – على ما تقدم ذكره في المقال السابق – فإن ذلك يرتب نتيجة غايةً في الأهمية على المستوى الاجتماعي.
فالسلطةُ القضائية على هذا النحو صارت إحدى ركائزِ الدولةِ الأساسية التي تَشْخَصُ إليها أبصارُ المُهتمين بالشأن السياسي، وهي بذلك ستكون – شأنها شأن أي سلطةٍ أخرى – عُرضةً للتناول السياسي المُنصَبُ على تقييم ذلك الدور الذي تنهض به هذه السلطة ومدى قدرتها على تحقيق الأهداف الإجتماعية المنوطة بها. فالسلطة التشريعية تخضع لتقييم الباحثين والخبراء والمهتمين بالشأن البرلماني، وكذلك الحكومة أيضاً، إذ تُسَطَّرُ العديد من التقارير التي تتناول الأداء السياسي لهاتين السلطتين، وهذه التقارير قد تناقش بين سطورها العديد من أوجه القصور التي تعتري عمل هاتين السلطتين، وتوجه سهام النقد إلى العديد من سياساتها وقراراتها وتوجهاتها.
واعترافُنا بالدور السياسي للسلطة القضائية – على نحو ما سبق تناوله – سيستتبع الاعتراف بخضوع هذه السلطة – شأنها في ذلك شأن السلطتين التشريعية والتنفيذية – لآلية تقييم السياسات والتوجهات، والتعرض لبعض أوجه القصور التي تعتري أداءها ومدى فعالية هذا الأداء في تحقيق الأهداف السياسية للدولة والمنوطة بها على صعيد سيادة القانون وضمان احترام الحقوق والحريات.
وما من شك في أن القبول بمثل هذه الفكرة قد يبدوا في مُستهله صعباً، لكن إذا وَضَعنا خطاً فاصلاً بين الدور السياسي للسلطة القضائية ودورها الوظيفي المُنصَبْ على القضاء في منازعات بعينها، لاستطعنا أن نَخْرُج بمعايير تحكم إطار تناول أي طرح يتعلق بالدور السياسي للسلطة القضائية، وهذه المعايير يمكن أن نوجزها في معيارين كالآتي :
1- محل التقييم : فيقتصر التقييم السياسي على الصكوك القانونية المُنَظِمَة للسلطة القضائية والتي تتناول رسم إطار وهيكل السلطة القضائية وتعمل على تنظيم العمل القضائي، إلى جانب اهتمامها بوضع القواعد الإجرائية والمعايير الموضوعية لاختيار رجال القضاء على ضوء الكفاءة والجدارة وتكافؤ الفرص، وتنظيم آليات التدريب ورفع كفاءة القضاة بما يتماشى مع تطور الحياة الاجتماعية وما يصاحبها من تطور على صعيد القانون، وتحوط حصانة القضاة بمزيد من الضمانات على صعيد المساءلة التأديبية بما يحول دون إساءة استخدام أداة التأديب وانحرافها عن مسارها الصحيح.
وبذلك يخرج عن إطار التقييم ما يصدره القضاة من أحكام وفقا لما وَقَرَ في عَقِيدتهم واطمأن إليه وجدانُهم على ضوء ما بدا من أوراق الدعاوى المنظورة أمامهم، فذلك العمل مما لا يجوز اللجوء إلى تقييمه في إطار تناول الدور السياسي للسلطة القضائية، وإنما يخضع للتقييم القانوني على النحو المرسوم قانوناً من خلال الطعن على الأحكام وفقا للطرق وبالأساليب المبينة في القانون، ويكون ذلك أمام جهات القضاء التي أنشأها وحددها القانون دون غيرها، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض هذه الأحكام قد تخضع للتناول العلمي من خلال التعليق عليها في بعض البحوث العلمية، وذلك مما لا يمس أو يَقدح في هيبة أو سلطة المحكمة التي أصدرت الحكم، لأن في ذلك التناول العلمي ما يثري الإنتاج الفقهي والذي يُعد مصدراً غاية في الأهمية من بين المصادر التي يعتمد عليها القضاة في تفسير القانون والتعرُف على غايات ومقاصد المشرع وهو ما يمهد للتطبيق الصحيح للقانون.
2- أسلوب التقييم : حيث يتعين اختيار أساليب تقييم مناسبة تتفق وطبيعة وجلالة الدور الذي تؤديه السلطة القضائية، فلا يصلح عند تناول أيَ أمرٍ من الأمور المتعلقة بالدور السياسي للسلطة القضائية، اقتفاء ذات الأثر الذي يتم تناول الأمور المتعلقة بالبرلمان والحكومة على مسرح السياسة وخارج إطار القانون، نظراً لأن الدور السياسي للقضاء وإن كان ينصب بالأساس على القانون وحماية سيادته، فينبغي أن يكون التناول على ضوء ذلك، بأن يتم الاعتماد على التقارير التي تعتمد منهجية قانونية موضوعية في الصياغة، فتتناول ذلك الدور بالنقد على نحو متوازن تُراعى فيه المنهجية العلمية النقدية، لا أن تعتمد على الأهواء السياسية واللجوء إلى تصريف الغضب الذي يستحيل معه النقد اعتداءً، فذلك مما لا تتناسب فيه البتة المصلحة المرجوة من النقد مع ما يصيب هيبة السلطة القضائية من ضرر، وهو الأمر الذي يجعل مثل هذا النقد تجاوزاً في الإباحة يضع مرتكبه تحت طائلة القانون. ولا عبرة بعد ذلك بالمكان الذي سيطرح فيه هذا التقييم، فقد يكون البرلمان ولا يعد ذلك اعتداء على مبدأ الفصل بين السلطات، لأن هذا المبدأ ليس مطلقاً من كل قيد، وقد يكون مؤتمراً أو محفلاً علمياً، وقد يكون التناول إعلامياً متى روعيت الضوابط المبينة سلفاً، وقد يكون في المَجلات والدوريات العلمية ذات الصلة.
أياً كان موضع التقييم او وسيلته فمتى روعيت ضوابطه الموضوعية صار ذلك حقاً أصيلاً من حقوق التعبير لا يجوز تقييده أو حظره، دون الإخلال بتنظيمه على النحو المبين سلفاً.
وإلى لقاء في المقال الثالث ،،،

زر الذهاب إلى الأعلى