الريادة التشريعية وتعزيز القوة الناعمة المصرية

بقلم: الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

تاريخياً، شكلت الريادة التشريعية أحد عناصر القوة الناعمة المصرية، حيث كانت القوانين المصرية هي النموذج الذي يحتذي به المشرع في الدول العربية كافة، ولاسيما في دول الخليج العربية وليبيا واليمن والعراق. ولا ننسى أن الفقيه الكبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري هو الذي قام بإعداد مشروعات الدساتير والقوانين المدنية في العديد من الدول العربية. كذلك، اضطلع المستشار علي علي منصور بدور مهم في إعداد مشروعات معظم القوانين الكبرى السارية حالياً في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث كان رئيساً للجنة العليا المشكلة سنة 1979 لمراجعة القوانين المعمول بها واقتراح تعديلها بما يتفق مع الأحكام القطعية والمبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية. وبوجه عام، لا نغالي إذا قلنا إن المدرسة القانونية والقضائية المصرية تحظى بمكانة عالية وتقوم بدور رائد في العالم العربي، ولاسيما دوله الواقعة في قارة آسيا.

وفي الوقت الحالي، يمكن أن تشكل الريادة التشريعية أحد العوامل الرئيسية لتعزيز القوة الناعمة المصرية كنموذج يهتدى به في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والواقع أن ذلك لن يتحقق سوى من خلال المبادرة التشريعية وتحديث المنظومة القانونية المصرية باستمرار لمواكبة المستجدات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي يشهدها العالم أجمع. ويبدو أن هذا الموضوع يحظى بأهمية بالغة في استراتيجية الجمهورية الجديدة التي أعلن عنها مؤخراً الرئيس عبد الفتاح السيسي. ولعل ذلك هو الذي استدعى إنشاء اللجنة العليا للإصلاح التشريعي، والتي صدر بتشكيلها قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 187 لسنة 2014م، ثم تم إعادة تشكيلها وتنظيمها بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 10 لسنة 2017 ثم بمقتضى القرار رقم 209 لسنة 2017م. كذلك، تم تدشين «مبادرة إصلاح مناخ الأعمال في مصر (إرادة)»، والتي تعقد اجتماعاتها برئاسة رئيس مجلس الوزراء، لمناقشة المقترحات التشريعية التي من شأنها تبسيط إجراءات نشاط الأعمال.

وهكذا، وفي إطار تحقيق هدف الإصلاح التشريعي وتحديث المنظومة القانونية المصرية، صدرت مؤخراً العديد من التشريعات الرائدة التي يمكن أن تشكل نموذجاً يحتذي في المنطقة العربية ككل. وللتدليل على ذلك، يمكن أن نذكر بعض الأمثلة، سواء من التشريعات الجنائية الموضوعية أو من التشريعات الجنائية الإجرائية، الأمر الذي يبدو جلياً من خلال العرض التالي:

الريادة في التشريعات الجنائية الموضوعية

فيما يتعلق بالتشريعات الجنائية الموضوعية، يمكن أن نشير إلى تجريم العديد من السلوكيات والظواهر الإجرامية المستحدثة، كما هو الشأن في تجريم التحرش الجنسي، والذي تم أولاً بموجب القانون رقم 49 لسنة 2014م، تم جرى مؤخراً تشديد العقوبة المقررة له بمقتضى القانون رقم 141 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات.

وفي الإطار ذاته، حرص المشرع على إبراز الحزم في مواجهة ختان الإناث، وذلك من خلال تشديد العقوبة المقررة لهذه الجريمة، الأمر الذي تحقق أولاً بموجب القانون رقم 78 لسنة 2016م، ثم بمقتضى القانون رقم 10 لسنة 2021م.

كذلك، ونظراً لظهور العملات المشفرة أو الافتراضية، ورغبة في مكافحة الاستعمالات غير المشروعة لها في ارتكاب بعض السلوكيات الإجرامية، ولاسيما غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ارتأى المشرع المصري من المناسب أن يدرج نصاً جديداً ليس له مثيل أو نظير سابق في المنظومة القانونية المصرية والعربية، ونعني بذلك المادة (206) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي، الصادر بالقانون رقم 194 لسنة 2020م، والتي تنص على أن «يحظر إصدار العملات المشفرة أو النقود الالكترونية أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها دون الحصول على ترخيص من مجلس الإدارة طبقاً للقواعد والإجراءات التي يحددها».

ولا يفوتنا أيضاً الإشارة إلى المبادرة المصرية إلى حظر زواج الأطفال. ففي يوم الأحد الموافق الحادي والعشرين من مارس 2021م، وخلال خطابه في احتفالية يوم المرأة المصرية وتكريم الأمهات المثاليات، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إنه وجه الحكومة بسرعة اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع زواج الأطفال، مؤكداً على أهمية الإسراع إصدار تشريع قانوني خاص، يتم بموجبه منع الزواج المبكر للأطفال، وينص على السن القانوني للزواج. وفي هذا الصدد، قال الرئيس السيسي: «استكمالاً لمسيرة دعم وتمكين المرأة المصرية، أوجه الحكومة بما يلي: قيام مجلس النواب بسرعة اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع زواج الأطفال، أنا بتكلم على الزواج المبكر بقانون مستقل والنص صراحة على السن القانوني للزواج». ومن ناحية أخرى، قال الرئيس السيسي إن قانون الأحوال الشخصية الجديد المزمع إقراره من جانب البرلمان سيراعي التوازن في حقوق الأب والأم.

الريادة في التشريعات الجنائية الإجرائية

فيما يتعلق بالتشريعات الجنائية الإجرائية، وحرصاً على حماية المجني عليه في جرائم العرض، وفي الخامس من سبتمبر 2020م، صدر القانون رقم (177) لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية، متضمناً إضافة مادة جديدة برقم (113 مكرراً)، تحظر على مأموري الضبط أو جهات التحقيق الكشف عن بيانات المجني عليه في أي من جرائم هتك العرض وإفساد الأخلاق والتعرض للغير والتحرش. وهذا القانون يشكل بداية فلسفة جديدة وسياسة تشريعية داعمة لحقوق المجني عليه، وبحيث لا يقصر المشرع اهتمامه فحسب على حماية حقوق المتهم. وغني عن البيان أن النص القانوني سالف الذكر من شأنه تشجيع الضحية على الإبلاغ عن الجريمة المرتكبة ضدها، دونما خوف أو خشية من الإساءة إلى سمعتها.

وهذا القانون يعتبر الأول من نوعه في العالم العربي، ونعتقد أن الدول العربية الأخرى سوف تقتدي به في تقرير الحكم ذاته، وبحيث تعود لمصر الريادة التشريعية في العالم العربي كما كانت في السابق. ويمكن للخارجية المصرية أن تجعل من فكرة هذا القانون مبادرة دولية يتم تبنيها من خلال منظمة الأمم المتحدة، وأن تقوم بحشد التأييد اللازم لها من خلال المنظمات المعنية بحقوق المرأة. وأكاد أجزم بأن هذه المبادرة سوف تجد زخماً كبيراً وتأييداً متعاظماً على مستوى العالم أجمع. وسندنا في ذلك أن ثمة حملة أكاديمية وشعبية حالياً في اسكتلندا لتعديل القانون من أجل تقرير سرية بيانات مقدمي بلاغات الاغتصاب. صحيح أن بعض الدول الأجنبية قد سبقتنا في تقرير سرية بيانات المجني عليهم في جرائم الاغتصاب، ولكن سيكون لمصر فضل السبق في تحويل هذا الموضوع إلى مبادرة دولية يتم إقرارها بواسطة الأمم المتحدة. ومن شأن إقرار هذه المبادرة أن يعزز ويدعم الدور المصري في المجتمع الدولي، آملين أن يشكل ذلك نهجاً ثابتاً في استراتيجية الحكومة المصرية بأن تسعى إلى الدفع في اتجاه إقرار بعض المبادرات في المنظمات الدولية. كذلك، ينبغي أن تضع المؤسسات التشريعية الوطنية في اعتبارها اقتراح ومراجعة التشريعات والسياسات التي تعزز سمعة مصر على مستوى العالم. ونحتاج أخيراً إلى إبراز مظلة الحماية التي تحظى بها المرأة ضحية الاغتصاب أو التحرش الجنسي في النظام القانوني المصري، وأن يتم توضيح ذلك للعالم بأسره.

 

زر الذهاب إلى الأعلى