الدكتور السنهوري والديمقراطية (2)
بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الوطن الجمعه ٢٠٢١/١١/١٢
عندما كان الدكتور السنهورى رئيسًا لمجلس الدولة ، صار المجلس في عهده حصنًا حصينًا للحريات ، وملجًا آمنًا للمواطنين ضد عسف الحكومة , وتواترت أحكامه التي تؤكد على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة أمام القانون وصون الحريات الشخصية .وقد أرست أحكام القضاء الإداري مبدأ خطيرًا غير مسبوق، وهو اختصاص القضاء الإدارى بالرقابة على دستورية القوانين، وهو الاختصاص الذي أنشئت من أجله المحكمة الدستورية العليا بعد سنين .
في أيام السنهوري ، سعى مجلس الدولة في أحكامه إلى التضييق من نطاق أعمال السيادة ، وإلى الرقابة على السلطات الاستثنائية للإدارة ، مثل فرض الأحكام العرفية ، ولوائح الضرورة ، وذلك لتوفير الضمانات لحريات الأفراد وحقوقهم في حالات الطوارئ والضرورة. بهذه الأحكام التي اقترب بها من تحقيق حلمه القديم بهيمنة استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ، صار السنهورى بطلًا قوميًا لدى كل فئات الشعب فى مصر على حد تعبير الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين .وفي الوقت نفسه اشتد غضب القصر الملكي وأعوان الاستبداد على المجلس ورئيسه . فقد استفاد الشعب من جو الحرية الذي بثه المجلس في ربوع البلاد . وكانت الصحف المعارضة للقصر من أوائل المستفيدين، فزادت من حدة حملاتها على الملك ورجاله.
وكان رد القصر هو مصادرة تلك الصحف وتعطيلها. فلم يجد أصحابها سوى اللجوء لمجلس الدولة الذي لم يتردد بدوره فى إلغاء قرارات المصادرة فى أحكام مدوية كانت تزيد الصحف جرأة فى حملاتها . وسار الأمر على هذا النحو حتى فقد الملك صبره ، وأصدر في سبتمبر ١٩٥١ أمرًا إلى الحكومة الوفدية التي كان يرأسها مصطفى النحاس باشا بأن تصدر مرسومًا بإلغاء مجلس الدولة ، وكادت الحكومة تنصاع لرغبة الملك وتوقع مرسومًا بهذا الشأن لولا المعارضة القوية من بعض وزرائها.
ولم تكن مواقفه وأحكامه بعد ثورة يوليو 1952 ، بأقل قيمة وشجاعة من الأحكام الصادرة فى العهد السابق ، وكانت امتدادًا للروائع التى توالت فى عهده .. فى مقال للأستاذ ضياء الدين شيت خطاب فى رثائه بمجلة القضاء ( أغسطس 1971 ) ، كتب يقول :
« فى سنة 1949 عين الفقيد رئيسًا لمجلس الدولة , فأقام قواعده على أسس متينة , ويُعَدّ بحق المؤسس الحقيقى له , وقد أصدر أحكامًا قضائية رائعة , تشهد له بالقوة , والوقوف بجانب الحق . حتى إن الصحف المصرية أخذت تشيد بالفقيد وبرئاسته لمجلس الدولة , فقالت إحدى المجلات عنه : « كان قبسًا من العدل فى دنيا كلها ظلم , وشعاعًا من النور فى مجتمع كله ظلام , كان الناس يشتد بهم الجور فلا يلجئون إلاَّ إليه , ويطاردهم الطغيان فلا يلوذون إلاَّ به , فقد كان أقوى من الجور , وأقوى من الطغيان . لقد كان ينظر إلى الأمام فلا يرى إلاَّ ظلمًا عليه أن يدفعه , وإلاَّ ظلامًا عليه أن يبدده , ونشهد الله أنه قد فعل , وأنه كان القيمة الوحيدة التى ظل إيمان الناس بها لا يتزعزع ولا يهتز . أراد الظالمون أن يخيفوه فلم يخف , وأرادوا أن يرغبوه فلم يرغب . كان يحس أنه يعتلى مقعدًا يضعه فوق عواطف البشر وفوق أطماعهم , وفوق مخاوفهم , ولكنه لم يكن يستمد قوته من الكرسى الذى كان يجلس عليه , وإنما كان يستمدها من أعماق قلبه , وأعماق ضميره , ومن أعماق إيمانه بأن الله يعلى العدل , ولا يهمل عقاب الظالمين .
وكتبت عنه إحدى المجلات تقول : « عبد الرزاق السنهورى الفقيه الذى تبنى مواد القانون فجعلها حرابًا , تحمى الحريات وتذود عن الأحرار , والقاضى الذى ارتفع به كرسيه فوق الأغراض والأشخاص وزيرًا للعلم فلم تنسه الجامعة ولا الجامعيون , ثم تربع على عرش مجلس الدولة , فكان الضوء الأحمر لكل حكم ظالم , ليقف عند حده , على يديه صال مجلس الدولة وجال , فاطمأن الناس , وهدأت النفوس , وأحست الحكومة أن من ورائها « ديدبانًا » يقظًا لا يفرط فى حق , بل هو أقوى من القوى , حتى يأخذ الحق منه » .
وكتبت مجلة مجلس الدولة مشيدة بالتقاليد التى أرسى السنهورى قواعدها مؤكدة اعتزاز مجلس الدولة باستقلاله مشيرة إلى تصريحاته إثر القرار الذى أصدرته الجمعية العمومية برفض طلب الحكومة استقالة رئيس المجلس .
ونشر نص كلمة الأستاذ السنهورى التى أشاد بها بقرار المجلس تحت عنوان : « ومن أثر السلف الصالح » قائلاً إنه ستبقى هذه الصفحة الخالدة على وجه الدهر , يقرؤها من يجىء بعدنا , فيحس أن هؤلاء الرجال الذين سبقوه كانوا فى مستوى الموقف التاريخى الذى كان عليهم أن يقفوه . فلم يتخاذلوا ولم يترددوا , بل هبوا جميعًا إلى القيام بواجبهمٍ وأرسوا بقرارهم العتيد الحجر الأساسى فى استقلال المجلس , عندئذ سيعلم أن السلف قد ترك له تراثًا هو أثمن ما ترك سلف لخلف , تراثا عماده الحق والعدل , وقوامه العزة والكرامة .
تلك الكلمات هى ما أبداه «عبد الرزاق السنهورى » رئيس مجلس الدولة فى تعقيبه بمجلة المجلس على قرار الجمعية العمومية الذى استنكر مطالبة الحكومة لرئيس المجلس بالتنحى عن منصبه
* * *
لقد دفع السنهورى ثمن مواقفه الموضوعية الشجاعة ، وفرضت عليه العزلة الإجبارية فى العهد الناصرى حتى عام 1970 قبل وفاته سنة 1971 ، وفصلته الحكومة سنة 1934 من الجامعة لأسباب سياسية ، ودأبت حكومات الوفد على مضايقته ، فعندما عاد للعراق سنة 1943 لاستكمال مشروع القانون المدنى العراقى الذى كان قد بدأه بدعوة من حكومتها ، ضغطت الحكومة الوفدية على الحكومة العراقية فاضطر للسفر إلى دمشق ، وبدأ وضع مشروع القانون المدنى لها ، ولكنه عاد مرة أخرى إلى مصر بسبب ضغوط حكومية ، إلاّ أن أحدًا لم يستطع أن يصادر السنهورى الفقيه الضليع .. ففضلًا عن حمله حقيبة وزارة المعارف أربع مرات فى الحكومات السعدية ، وقام أثناءها بتأسيس جامعة الإسكندرية ، فإنه قد عين عضوًا بمجمع اللغة العربية سنة 1946 ، ووضع مشروع معهد الدراسات العربية العليا ، وشغل رئاسة مجلس الدولة منذ مارس 1949 ، وأحدث به أكبر تطوير تنظيمى وإدارى فى تاريخه ، وأصدر أول مجلة له ، ولم تجد ثورة يوليو 1952 بدًا ـ كما رأينا ـ من الاستعانة بعلمه وفقهه ، فشارك فى وضع وثيقة تنازل الملك عن العرش ، وفى وضع قانون تحديد الملكية الزراعية ، وفى اللجنة التى شكلت لوضع دستور مصرى بعد إلغاء دستور 1923، والتى صدر عنها فى فبراير 1953 الإعلان الدستورى الذى ظل معمولًا به حتى وضع دستور 1956 ، وقام ـ دون مقابل ـ بوضع القانون المدنى الليبى الذى صدر 1953 ، كما وضع المقومات الدستورية والقانونية لكل من مصر وليبيا والسودان والكويت والإمارات العربية المتحدة ، ولم تسمح له السلطات المصرية بالسفر ـ بعد فرض العزلة عليه ـ إلاّ مرة واحدة سنة 1960 إلى الكويت حيث وضع دستورها واستكمل المقومات الدستورية القانونية التى تؤهلها لعضوية الأمم المتحدة . أما آثاره الفكرية والقانونية ، فإن ما أشرنا إليه سلفًا لا يحصى ولا يستقصى الأعمال الغزيرة لهذا الفقيه الجليل التى نحتاج إلى زمن وجهد لجمعها من المذكرات القانونية والمجلات العلمية والأبحاث العديدة التى قدمها فى اللجان وفى المؤتمرات العديدة التى شارك فيها ، وفيما قدمه من أبحاث فى المؤتمرات الدولية للقانون المقارن .