الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (7)

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (7)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 1/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

من غير المعقول ألا يعرض الأستاذ العقاد، المعروف بموسوعية اطلاعه وموسوعية كتابته ومؤلفاته، ألاَّ يعرض لهذه القضية البالغة الأهمية التي ازداد الاهتمام بها اتساعًا بعد كتاب الشيخ على عبد الرازق الصادر 1925، وجدد هذا الحديث نشوء حركة الإخوان المسلمين منذ عام 1928 على يد الشيخ حسن البنا، تلك الحركة التي اتخذ الأستاذ العقاد موقفًا رافضًا لها ولقائدها، وكتب في ذلك أكثر من مرة في مقالات متفرقـة، هاجـم فيها حسن البنا هجومًا شديدًا، نم عن تحفظه ورفضه للحركة السياسية التي تلبس رداء الإسلام أو غيره من الأديان، وتستهدف الوصول إلى الحكم بخدعة رفع شعار الدين والتزام ما سواه.

وحين كتب الأستاذ العقاد كتابه الضافي: «الفلسفة القرآنية» سنة 1947، كان كتاب « الإسلام وأصول الحكم » الصادر سنة 1925 قد بدأ يملأ صفحة اهتمام الباحثين العدول بعد موجة الرفض الأولى التي ووجه بها، وزاد من هذا الاهتمام الاحتقان الذي زرعه الإخوان بعمليات العنف التي بدأت تظهر في الأفق، ودخلت الحكومات تباعًا في خصومة شديدة مع تلك الحركة، واتجهت بعض الأقلام إلى إظهار أن الخلافة الإسلامية التي تدعى الحركة السياسية أنها تنشد إحياءها، ليست من أصول الحكم في الإسلام.

ودخل الأستاذ العقاد مباشرة إلى لب الموضوع، حين تكلم عن الفلسفة القرآنية في الحكم، وهى فلسفة تنقض بذاتها نظرية الخلافة، والأسس التي قامت عليها لا سيما بعد عهد الراشدين، واختط الأستاذ العقاد خطة قوامها بيان ما ورد في القرآن الحكيم عن أسس الحكم بصفة عامة، وهى أسس يثبت من استعراضها أنها تختلف كل الاختلاف؛ بل وتتضاد، مع ما صار عليه الحكام بعد عهد الراشدين، من ملك عضوض، مدعين أنه خلافة، ومدعين لنفسهم أنهم خلفاء !

فقد تضمن القرآن الحكيم آيات واضحة قاطعة، تشكل مبادئ الحكم، وإدارة المجتمعات على جميع المستويات، بل وتحكم ضوابط المسئولية والأسس التي يتعين على كل حاكم ـ ملكًا كان أو أميرًا، أو راعٍ لمجتمعٍ أو لمرفق، وقرر لذلك مبادئ للحكم والإدارة تحكم كل هؤلاء، وتحكم كل حكومة أيّا كان شكل النظام الذي تتبعه.

وخلاصة هذه الآيات أن القرآن قرر مبادئ للحكم، ولكنه لم يفرض له نظامًا معينًا، وترك ذلك للاجتهاد تبعًا لظروف الزمان والمكان، ما دام هذا النظام يتبع هذه الأسس والمبادئ التي أوجبها القرآن في آيات محددة، وضعت الشورى أساسًا بين الحاكم والمحكومين، وأمرت الرسول ذاته ـ عليه الصلاة والسلام؛ بأن يشاور المسلمين في الأمر، وبأن يخفض لهم الجناح، فهو ليس بمسيطر ولا جبار، ولأهل الكتاب حقوقًا تستوجب دعوتهم إلى كلمة سواء، وألا يجادلوا إلاَّ بالتي هي أحسن، وأن العدل هو أساس الحكم.

يقول الحكم العدل، عز وجل:

« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » ( الشورى 38 )

« وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ » ( آل عمران 159 )

« وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » ( الشعراء 215 )

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » ( الحجرات 10 )

« إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ » ( الكهف 110 )

« يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ » ( آل عمران 64 )

« وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ » ( ق 45 )

« فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ » ( الغاشية 21، 22 )

« وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ » ( النساء 58 )

ومن هذه الآيات ما يصف المؤمنين أو يخاطبهم عامة، ومنها ما يتجه بخطابه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام آمرًا أو موجهًا أو موصيًا.

فمن صفات المؤمنين المستقاة من الآيات، أنهم إخوة، وأن أمرهم شورى بينهم، وأن العدل هو أساس الحكم فيما بينهم، وأن المجتمع الإسلامي يتسع لأهل الكتاب بالدعوة إلى كلمة سواء بينهم وبين المسلمين ألاَّ يعبدوا جميعًا إلاَّ الله، وألاَّ يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله…

والرسول عليه الصلاة والسلام، مأمور من ربه سبحانه وتعالى أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأن يشاورهم في الأمر، وخطابه لهم قوامه أنه بشر مثلهم يوحى

إليه، وأن إلهه وإله الجميع واحد، وما هو عليهم بجبار، وليس عليهم بمسيطر، وإنما خطابه إليهم بالحكمة والموعظة الحسنة..

وحاصل ذلك أن القرآن الكريم تضمن مبادئ يجب الالتزام بها في الحكم، ولكنه لم يقدم تصورًا تامًا أو صورة شاملة للحكومة، فالشورى أو المشاورة مبدأ، وعدم الاستبداد أو التجبر مبدأ، وخفض الجناح للتابعين مبدأ، والأخوة بين المؤمنين مبدأ، والعدل في الحكم بين الناس مبدأ، وتحمل التبعة مبدأ، والتعاون في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان مبدأ، والأمانة في الحكم وفي غير الحكم ـ مبدأ، وعدم كنز الأموال مبدأ، والتطهر بالزكاة والصدقة مبدأ. هذه المبادئ مبادئ عامة وردت نصًّا في آيات القرآن الحكيم، تحكم كل حكم، ولكنها لا تفرض نظامًا بعينه، تاركة صورة أو شكل النظام لظروف الزمان والمكان.

وجملة ما يقال في هذه الحكومة المحكومة بهذه الآيات القرآنية، أنها الحكومة التي لمصلحة المحكومين، لا لمصلحة الحاكمين.. يُطاع الحاكم ما أطاع الله، فإن لم يطعه فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق..

« أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ » ( النساء 59 )

« وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ » ( النساء 58 )

ويرى الأستاذ العقاد أن كل أركان حكم الأمة قائم في هذه الحكومة التي أرسى القرآن مبادئها.

وأبلغ الأمثلة على تلك الحكمة القرآنية، أنها أوردت مبادئ الشورى كمبدأ يجب التزامه بين الحاكم والمحكومين، وفيما بين المحكومين، وأمرت الرسول عليه السلام بالتزامها، ومن ثم يكون التزامها أوجب على كل حاكم أيّا كان شأنه.

زر الذهاب إلى الأعلى