الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام ! (5)

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام ! (5)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 15/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ليست هذه أول مرة أتصدى فيها للبحث وتكرار البحث والتصدي لفكرة الخلافة، وإثبات أنها لا تنبع من أصل من أصول الإسلام، وسبب معاودتي الحديث في هذا الموضوع المهم، أنه يأتي ختامًا لما ارتكبته التركية العثمانية من إراقة للدماء وهي تتشح بوشاح الخلافة الذي تطلع إليه سليم الأول يوم غزا مصر وشنق طومان باي على باب زويلة، ثم عنَّ له أن يأخذ الخلعة النبوية.. البيرق والسيف والبردة ومفاتيح الحرمين الشريفين لينقلها من القاهرة إلى الآستانة، وكأن الرسول ترك متعلقات مادية ولم يترك دينًا عظيمًا ملأ الدنيا هداية ونورًا.

ونحن نعرف أن أول من تصدى لهذا الموضوع في العصر الحديث، هو المرحوم الشيخ على عبد الرازق، فقد أصدر كتابًا عام 1925، بعنوان « الإسلام وأصول الحكم »، أجرى فيه بحثًا واسعًا في آيات القرآن الكريم، وفي الأحاديث النبوية والسنة الفعلية أو التقريرية ـ ليثبت ـ وقد أثبت ـ أن الخلافة ليست أصلاً من أصول الحكم في الإسلام، وكان الملك فؤاد يسعى آنذاك لتوسعة حكمه إلى خارج مصر بدعوى الخلافة، فجاء الكتاب ضربة قاضية لمشروعه ومخططه السياسي، وانطلق الملكيون والمتطرفون، لمهاجمة الكتاب وصاحبه مهاجمة عنيفة، حشدت فيها المقالات والأحاديث لإثبات مروق الشيخ عن أصول الإسلام، وبلغ من صخب الضجة التي أثيرت أن حوكم الشيخ محاكمة مؤسفة، انتهت إلى ما لا سابقة له لا في التاريخ، ولا في العقل والمنطق، حيث سحبت منه شهادة العالمية الحاصل عليها من الأزهر الشريف.

ويعرف العالم شهادات تعطى من المدارس والمعاهد والجامعات، وتعطى من الأزهر الشريف، ولكن أحدًا لم يسمع ـ وظني أنه لن يسمع ـ عن شهـادة صحيحـة تسحـب بلا تزوير أو تهافت فيها يكون قد عابها وفات على من أعطوا الشهادة، ولم يتكئ هذا القرار الغريب إلاَّ إلى رأى مبدى بعد سنوات عدة من الحصول على الشهادة، لم يرق أو لم يرض أو لم يتفق مع طموحات السلطة الحاكمة، ولو جاز هذا ـ وهو بداهـة لا يجوز ـ لسحبت إجازة الحقوق من الأستاذ العلاّمة السنهوري اعتراضًا على ما انحاز له رأيه بعد ثورة 23 يوليو 1952، سواء بالترتيب لدعمها ومساندتها في البداية، أو حين ابتعد ليتخذ موقفًا مناهضًا لها. يومها اعتُدى على الأستاذ السنهوري اعتداءً بدنيّا عنيفًا ومؤسفًا في سراي مجلس الدولة الذي كان يرأسه، وطافت مظاهرات السوقة تنادى «يسقط السنهوري الجاهل».. ولكن أحدًا لم يفكر في تحويل الهتاف الصاخب إلى واقع يتوسد تجهيل السنهوري وهو العالم العلامة، ولا اجترأ أحد على عقد مجلس كلية الحقوق بجامعة القاهرة، لسحب إجازة الحقوق المصرية، أو تكذيب الدكتوراه الحاصل عليها السنهوري من جامعة السوربون الفرنسية.

وقد بلغ من فُجْر الحملة الباطلة التي شُنت على الكتاب ومؤلفه، فصل الشيخ على

عبد الرازق من القضاء، وكان قاضيًا شرعيًا ورئيسًا للمحكمة الشرعية في المنصورة، ولولا أنه ينتمى إلى أسرة ثرية بمحافظة المنيا، لاضطر لأن يمد يده ليعيش !

هذا يكون الحال حينما تقتحم دنيا السياسة ميدان العلم والرأي؛ لأغراض لا تمت إلى العلم والرأي !

ولأن الأستاذ السنهوري رجل علم، وعلامة لا نظير له، فإنه لم يجد غضاضة في عدم ترجمة رسالته الثانية التي كتبها بالفرنسية سنة 1926 في باريس في « فقه الخلافة » ؛ فقد كان شابًا حينما كتب هذه الرسالة بحنين النزوع إلى ماضي الخلافة، وتبنى في الرسالة فكرة إحيائها، ولكنه لكونه رجل علم، لم يحجب أن الخلافة التي ينطبق عليها مسماها، هي فقط خلافة الراشدين، وأبدى في صراحة ووضوح أن ما تلا ذلك لم يكن خلافة، ومن ثم سَمَّاها « خلافة ناقصة ».. وهو تعبير ينزع من الخلافة معناها وفحواها، ولم يكتف العلامة الفقيه بذلك، وإنما أفصح في وضوح وجلاء عن أن مرجع هذا النقص إلى غياب البيعة، وحلول التوريث محلها، وإلى غياب الشورى والرأي، وحلول الاستبداد والطغيان !!

ومع أن العلاّمة لم يغلبه هواه في الخلافة على الموضوعية، إلاّ أنه حرص طوال حياته على عدم ترجمة هذه الرسالة المكتوبة بالفرنسية إلى اللغة العربية، وما كان هذا الإحجام إلاّ تعبيرًا ضمنيّا عن أنه ارتأى أن ما كتبه في شبابه سنة 1926 ـ ليس جديرًا بالتعبير عنه بعد أن دانت له كل أطراف وخبايا العلم، ومن المعروف أن الذي ترجم الرسالة مؤخرًا هو ابنته الدكتورة نادية بمساعدة وتقديم زوجها الأستاذ الدكتور توفيق الشاوي المحايى المعروف، والذي لم يكن يخفي ميله للإخوان.

وقد كان من نكبات استغلال مسمى « الخلافة » في نقيض ما عُرف عنها في زمن الراشدين، أن الاتشاح بها لم يقتصر على الحكام الراغبين في هذا الاتشاح لإسباغ قداسة على حكمهم، وإنما صار لهذا التضليل أنصار في إعلاء هذا المسمى ليكون ساترًا لحكمهم وما فرط فيه ؛ مثلما صدر عن الظاهر بيبرس حينما أراد التغطية على خيانته وقتله غيلة المظفر سيف الدين قطز، بطل معركة عين جالوت، وقاهر التتار، ومحرر القدس !

وقد كان بيبرس هو الذي أحيا الخلافة العباسية في القاهرة، واجتلب لها من لا ذكر لهم من العباسيين، ليسبغ عليهم لقب الخلافة، يظهرون به في المراسم والجوامع، ويصدعون لأوامره ولا يتحركون إلاَّ بإذنه، حتى صارت الخلافة « دمية »، وصار الخلفاء « دُمَىْ » أقرب إلى خيال المآتة، وشهدت مصر على مدار عقود فصولاً مؤسفة صار فيها الدين مطية لأغراض السياسة، والخلافة ستارًا لإخفاء التحكم والاستبداد والطغيان، وشتان بين خلافة الراشدين، وبين المسوخ الذين تقلدوا مسمّى « الخليفة » !!

زر الذهاب إلى الأعلى