الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام  (6)

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام  (6)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 22/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا يزال كتاب الشيخ على عبد الرازق « الإسلام وأصول الحكم » ــ لايزال قبلة معظم الناس، بل وصفوة المفكرين والكتاب، رغم مضى نحو قرن من الزمان على صدوره سنة 1925، ورغم كتابات في الموضوع أشمل وأعرض كثيرًا من ذلك الكتاب، منها كتابات الأستاذ عباس العقاد، ولكن ينقصها أنها متفرقه في أكثر من كتاب، ولم يتسع له العمر لجمعها معًا في مؤلف واحد يقتصر على موضوعها، ومنها بل في مقدمتها ما كتبه المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولى أستاذ القانون الدستوري والأنظمة السياسية الشهير، والأستاذ في جامعة الإسكندرية، وفي جامعة أم درمان الإسلامية، وهو كتاب شامل، صدر في نحو خمسمائة صفحة بعنوان: « نظام الحكم في الإسلام » . لم يترك فيه شارده ولا واردة لكبار الفقهاء والعلماء قديمًا وحديثًا ــ إلاًّ أحاط بها ومحصها، ليخلص بعد دراسة واسعة، إلى أن الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام، وكتاب أخر بالغ الأهمية، صدر في نحو أربعمائة صفحة، بعنوان «أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث » ( مظاهرها ــ وأسبابها ــ وعلاجها ) .

ومع ذلك ورغمه، بقى كتاب الشيخ على عبد الرازق قبلة معظم الطلاب والباحثين، يرجع ذلك في نظري لعدة أسباب، في مقدمتها شهرته الواسعة بعد مبادأته التي قلب بها الموازين منذ قرن من الزمان، وأصابت بالضربة القاضية مشروع الملك فؤاد التوسعي، حيث  كان جمود الفكر والفقه هو المسيطر في ذلك الزمان، فيما عدا كتابات قليلة بالقياس إلى المجموع العام، مثلها آنذلك الأستاذ العقاد والدكتور طه حسين وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد وآخرون، ولكنها لم تكن قد نالت نصيبها من الذيوع والتأثير، بل وقوبل كتاب الدكتور طه حسين (عام 1926) « في الشعر الجاهلي » برفض تامٍ، طيره من الجامعة، وأحيل للنيابة العامة التي أجرت معه تحقيقًا واسعًا نهض عليه رئيس النيابة الأستاذ محمد نور ــ ولم يجد لطه حسين مخرجًا إلاَّ في نفي القصد الجنائي، تجنبًا لمناقشة الموضوع الذي إكفهرت له كل الأجواء، وافتقد طه حسين من يدافع عنه، سوى الأستاذ عباس العقاد الذي تصدى في مجلس النواب ــ رغم اختلافهما ــ للدفاع عن حريته في الفكر والبحث .

كان كتاب الشيخ على عبد الرازق بمثابة الصدمة التي أيقظت الكثيرين من سباتهم، ودعتهم الضجة التي أثيرت حوله، إلى الالتفات إليه، فأقبل عليه البعض فضولاً، وأقبل آخرون تطلعًا للمعرفة، واستيسره الباحثون منذ ذلك الوقت، ربما لأن ما ذاع عنه يريحهم من عناء بحث وعرض ما جاء به، وهي آفة لانزال نراها حتى اليوم، فتراجع الوقت المقتطع لقراءة الجديد حتى لدى بعض النخبة، وهو ما أصاب النقد أيضًا بصفة عامة، فلا نرى الثراء الذي كنا نراه إلى وقت قريب من أمثال الدكتور محمد مندور والدكتور لويس عوض وكبار الكتاب أمثال العقاد وطه حسين ويحيى حقي الذين لم يبخلوا بإعطاء نصيب للنقد في كتاباتهم، حتى بتنا نرى من لا يتحدث إلاَّ عن الماضي الذي قرأه، فيتكرر الحديث مرارًا عن رفاعة الطهطاوي والجيل التالي، وكأن الزمن قد توقف ولم ينتج الحاضر مفكرين وأدباء وإصلاحيين جديرين بتناول أعمالهم، ولكن هذا التناول يستلزم دراسة، والهمم تكاد تكون قد عافت الجهد وارتاحت إلى ما تعرفه !

على أن ذلك لا يمنعنا من إعطاء الشيخ علي عبد الرازق وكتابهم حقهما من التنويه والتقدير، فقد دفع الرجل ثمنًا باهظًا لتأليف كتابه، ألمحنا سلفًا إلى بعضه، ومن ثم من حقه علينا أن نسجل له أنه كان سباقًا بهذا المؤلف، فأيقظ عقولاً كانت فد استنامت، وحرك المياه الراكدة .

التزم الشيخ في كتابه الأصول المنهجية في البحث، وساق الأدلة من القرآن والسنة على أن الإسلام « برئ » من نظام الخلافة، وتحدى أدعياء الخلافة أن يأتوا بحديث نبوي واحد صحيح يؤيد نظام الخلافة، وأخذ على ما روجه أصحاب فكرة الخلافة أنهم خلطوا خلطًا معيبًا بين مقام النبوة والرسول، وأضفوا هذا المقام على الخلافة والخليفة، وادعوا أن الخلفاء يقومون مقام الرسول عليه الصلاة والسلام، « في حفظ الدين وسياسة الدنيا »، ومن ثم أنزلوا الخليفة من الأمة بمنزلة الرسول، وابتدعوا انه بما له على الأمة من الولاية العامة، والطاعة التامة، حق القيام على دينهم والقيام على شئون دنياهم، لأنه في تصورهم نائب الرسول عليه الصلاة والسلام .

يحسب للشيخ على عبد الرازق، أنه حين ألف هذا الكتاب، لم تكن قد ظهرت بعد الكيانات التي بدأت في الظهور منذ سنة 1928، واتخذت من « الخلافة » غاية للوثوب إلى الحكم، ولم تكن قد ظهرت الكيانات المتفرعة عنها كالدواعش الذين جعلوا يعلنون قيام دولة الخلافة (الداعشية) هنا وهناك في البلدان التي ابتليت بهم .

لم يكن ذلك قد ظهر بعد حين كتب الشيخ مؤلفه، وكأنه قد قرأ الاحتمالات من واقع ما رآه عبر دراسته للتاريخ ورجوعه إلى ما كتبه ابن خلدون ، عن تحول الخلافة إلى ملك عضوض، وبدء ظهور التوجهات الثيرقراطية التي ظهرت في الدولة العباسية، وتجلت فيما فاه به أبو جعفر المنصور، الذي تجاوز الخطبة الثيوقراطية التي كان أخوه السفاح قد ألقاها بالكوفة، وادعى فيها أنهم يرثون الخلافة من النبي عليه الصلاة والسلام، ولهم ما كان له في القرآن، فإذا بالمنصور ينتقل خطوة أخرى في المفهوم الثيوقراطى للحكم، فيدعى أنه سلطان الله في الأرض، وطفق يقول:

« أيها الناس ! إنما أنا سلطان الله في أرضه، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه . فقد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحنى، وإذا شاء أن يقفله أقفلني . فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف، الذي وهب لكم فيه من فضل ـ أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم إنه سميع قريب ! » .

هذه الخلافة، لا اصل لها في الإسلام

زر الذهاب إلى الأعلى