الخلافة ليست من أصول الإسلام ! (4)
الخلافة ليست من أصول الإسلام ! (4)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 8/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
معالم الحكم الواضحة في المبادئ قطعية الدلالة التي استنها القرآن الحكيم، أن الحكومة حكومة مدنية، بمعنى أن القائم على الأمر ليس ممثلاً لله عز وجل، ولا يملك أن يتحدث باسمه، وإنْ كان عليه أن يلتزم بأوامره ونواهيه، وأن يسترشد بالمبادئ التي قررها سبحانه وتعالى لولاية الأمور .
ومن الواضح في هذه المبادئ أن الحكومة في هذه الآيات القرآنية لمصلحة المحكومين، لا لتجبر الحاكمين .. فليس لأحدٍ أن يدعى لنفسه ما أُمِرَ الرسولُ عليه الصلاة والسلام بالتزامه، أو ما أُمِرَ باجتنابه .
فقد أُمِر أمرًا واضحًا بأن يشاور المؤمنين في الأمر، وأُمِرَ بأن يخفض الجناح لمن اتبعه من المؤمنين، وأُمِرَ بأن يوضح للناس أنه ليس إلاَّ بشر مثلهم يوحى إليه، وأن يحكم بينهم بالعدل، ونُهي نهيًا صريحًا أن يكون عليهم جبارًا، وقيل له أن يُذكِّر، فإنما هو مُذكِّر، وليس عليهم بمسيطر .
وليس لأحدٍ أن يدعى لنفسه ما يجاوز ما كان للرسول عليه الصلاة والسلام .
ولم تكن سيرة النبى عليه الصلاة والسلام إلاَّ تطبيقًا لما أمره به ربه سبحانه وتعالى، فكانت نبوته نبوة تبليغ وهداية، أطاع فيها ربه، ولم يَدّع لنفسه إحاطةً بالغيب، ولا علمًا يجاوز ما أمره الله تعالى بتبليغه .
وكان الفاروق رضى الله عنه يأبى أن يقال عن رأيه إنه مشيئة الله، وانتهر بعض جلسائه لأنه زعم ذلك فقال: « بئس ما قلت ! هذا ما رأى عمر . إن كان صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر …. لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة » .
وما أسلفته يكاد يكون محل اتفاق بين وجهاء من كتبوا في هذا الباب: ابن خلدون، الشيخ على عبد الرازق، عبد الرازق السنهوري، عباس العقاد، الدكتور عبد الحميد متولى . وربما حجب هذا الكتابات الجدية عن الناس، أن النخبة توقفت ــــ استسهالاً واكتفاء بالشائع ـــ عند كتاب الشيخ على عبد الرازق « الإسلام وأصول الحكم »، بل ويكتفي معظمهم بذكر العنوان ولا يجهد نفسه في قراءة ما بداخله من حجج وبراهين !
قد أسلفت أن الأسبق كتابة في الموضوع، كان العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، حيث توقف طويلاً أمام نظام الخلافة ــ قبل أن تنقضي، ونظام الملك، تناول كيف انقلبت الخلافة إلى ملك، ملاحظًا أن الملك غاية طبيعية للعصبية، إذا لا يقوم الملك إلاَّ جريًا وراء هذه العصبية، وهي عصبية الانتماء إلى فصيل معين تبعًا للجنس أو الأصل أو غير ذلك .
وهذه العصبية مكروهة بكل صورها في الإسلام، إذ فيها قال الحديث إن الله أذهب عن المخاطبين « عُبَّيّة » الجاهلية، وهي الكبر والفخر والخيلاء، وقال تعالى: « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ » .
وهذه العصبية مذمومة، ذمها الشارع الإلهي، فقال: « لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم » . لأن العصبية تقوم على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهلية، وهذا بالطبع غير العصبية في الحق وللحق .
كذلك الملك، ممدوح أو مذموم تبعًا لمراده وأغراضه .
وهكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله، حذرًا من الالتباس بالباطل .
أما كيف تحولت الخلافة التي بدأت بالصديق، إلى الملك، فكانت البدايات في تعاظم الثروات التي وصفها المسعودى ( في مروج الذهب ) ـ ونقلها عنه ابن خلدون بالتفصيل، ومختصر القول إنه صارت أحوال الدين تبعًا لفساد الدنيا، فبدأ يصير الأمر إلى الملك وإن بقيت معاني الخلافة في تحرى الدين ومذاهبه والجرى على منهاج الحق، ولم يظهر التغير إلاَّ في الوازع الذي كان دينًا ثم انقلب عصبيةً وسيفًا ! وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بنى العباس إلى الرشيد وبعض ولده .
ثم ذهبت معانى الخلافة ـ فيما يقول ـ ولم يبق إلاَّ اسمها، وصار الأمر ملكًا بحتًا، وجرت طبيعة التقلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر والتغلب في الشهوات والملاذ . وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك، ولمن جاء بعد الرشيد من بنى العباس، وظل اسم الخلافة باقيًا فيهم لبقاء عصبية العربي .
والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضها ببعض . ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشى أحوالهم، وبقى الأمر ملكًا بحتًا، كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق، يدينون بطاعة الخليفة تبركًا، والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شىء، وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيدين ومغراوة وبنى يفرن أيضًا مع خلفاء بنى أمية بالأندلس والعبيدين بالقيروان .
قد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً، ثم التبست معانيها واختلطت، ثم انفرد الملك، حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة . والله مقدر الليل والنهار، وهو الواحد القهار .
ثم أتبع ابن خلدون ذلك بحديث في معنى البيعة، وآخر في ولاية العهد، ما أصاب فيها وما أخطأ وهو الذي ساد في الدولة الأموية والدولة العباسية، بعد أن أشرفت العصبية على غايتها من الملك، وضعف الوازع الدينى، واحتيج في المقابل إلى الوازع السلطانى والعصبانى !
وخلاصة ما انتهي إليه ابن خلدون، التفرقة بين الخلافة الخالصة التي كانت في زمن الراشدين، وأن غيرها كان مُلكًا، فإن تسمت بالخلافة فهي خلافة غير خالصة . وسوف نرى أن الأستاذ السنهورى اعتبرها « خلافة ناقصة » في رسالته الثانية للدكتوراه . سنة 1926 . عن فقه الخلافة .