الخطوط الحمراء

نشر بجريدة المال الأحد 28/6/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

 

الخط الأحمر تعبير مجازى عما لا يجوز عبوره أو تخطيه أو تجاوزه أو إهداره أو المخالفة عنه أو الضرب فيه.. يسرى ذلك في قواعد المرور، ويسرى في سلوكيات الأفراد والمجاميع، ويسري حتما على قرارات الدول والحكومات وكافة السلطات المخولة في الحكم أو الإدارة أو التشريع.. وقرينة البراءة، مبدأ مقدس في شرائع السماء، وفي كافة الدساتير، وكل المواثيق الدولية، ثم هو مقدس في منطق البداهة الذي هو حصيلة ما تعارفت عليه الشرائع السماوية والدساتير والقوانين والمواثيق الدولية.

كانوا ولا يزالون يعلموننا في قاعات الدراسة، أن المتهم.. أي متهم بريء يتمتع بقرينة البراءة التي ولد بها على الفطرة، وأن هذه القرينة لا تنحسر عنه إلاّ بحكم قضائي نهائي يخلص وينتهي من واقع محاكمة عادلة إلى ثبوت إدانته بجرم ما.. قبل هذه الإدانة القضائية هو بريء في حكم القانون، وفى نظر الناس، لأن الناس ليست مخولة في إصدار الأحكام، ولا في محاكمة بعضها بعضا، وإلاَّ ارتدوا إلى منطق الغابات !!، لذلك علمونا في مقاعد الدرس أيضا، وفى أحكام القضاء أنه خير للعدالة لأنها قانون السماء، أن تبرئ مائة مذنب، من أن تدين بغير حق بريئا واحداً.. هذه البراءة التي هي الأصل في الإنسان، مهما كانت الشكوك أو الريب أو الظنون.. فالظن ليس قانونا ولا قاعدة لحكم، حتى حذر منه القرآن المجيد، ونبه إلى أن بعضه بعض هذا الظن إثم كبير، وأكبر من بعض الظن، الكثير من الظن، وكلاهما يورد موارد التهلكة، يقول الحكم العدل في كتابه المبين: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ” (الحجرات 12).

وحذر من أن الندامة هي عاقبة مجاراته مجاراة الظن، فقال عز من قائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ” (الحجرات 6).. لا يعنى هذا أن كل حامل نبأ فاسق أو كاذب، فقد يكون صالحاً وصادقاً، ولكن النبأ أو الاتهام ينبغي أن يبقى في دائرة الفحص والبحث والمراجعة لمعرفة كنهه، وهل يتفق من عدمه مع الصدق وموجباته أم أنه كذب مقصود، أم أنه اتباع لظن لم يخضع للتمحيص والدراسة !

القرارات السياسية أو الإدارية، عرضة كالقرارات والسلوكيات الفردية، لأن تخطئ الصواب أو يفوتها التوفيق في وجوب الالتزام بمبدأ قرينة البراءة، فتهدرها أو تتجاوزها أو تتخطاها أو لا تلتفت الالتفات الواجب إليها، ولكن الأخطر من خطأ القرار السياسي أو الإداري، شطط النخبة الموكول إليها قيادة عقل الأمة.. الجمعي والفردي.. إذا دعت غافلة أو غير مدركة لنقض هذه القرينة المقدسة التي دونها الفوضى والضياع وشيوع المظالم وسيادة قانون الغاب وتحويل الناس إلى وحوش يقتل بعضها بعضا، ويفترس بعضها بعضا، ويدين بعضها بعضا، ويحل من يشاء نفسه محل القاضي والقضاء، فيسن القانون الذي يشاء، ويطلق الحكم الذي يشاء، ويسرع به مادام قد شاء إلى ساحة التنفيذ، فيقتل ويسفك الدماء، ويهدر حقوقا لعلها لأبرياء لم يرتكبوا ذنبا ولا خطيئة، مدفوعا باعتقاد.

وأهم أنه هو العدل، وأن ما يفعله إرساء للعدل الذي نصب نفسه رقيبا عليه وقائما به دون القضاء!

ولكن يستسيغ البعض، وقد يحلو لهم، أن يسبقوا القضاء إلى أحكامهم، فيتعاملون مع المتهم ويتناولونه كمذنب، ويسبقون إلى الحكم عليه قبل أن يثبت إدانته بحكم القضاء.

أخطر الأخطار في هذا المنطق الضرير غير المتبصر، أنه ينطوي ضمنا على إرهاب للقضاء ويمكن أن يدفع إلى التعجل في التحقيقات والمحاكمات، والتعجل غير السرعة، وهو عدو البحث الواجب والتمحيص الدقيق، وباب واسع للأخطاء، ومهدد وقاتل للعدالة، ويؤدي إلى شيوع الظلم والمظالم.. فماذا نحن قائلون لربنا وهو سبحانه وتعالى الذي حذرنا من الظلم، فقال في كتابه الحكيم: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ» (يونس 13).

وقال: «إنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (يونس 44).. وقال سبحانه محذرا: «يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» (غافر 52).. وقيل في الحديث: «إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة».

من الغريب المؤسف، أنه يتردى في هذه الآفة بعض النخبة، فيسبقون القضاء إلى حكمه، وقد يزينون له الحكم بما يريدون، بدلاً من الاحتكام إلى العقل والمنطق والدستور والقانون، والتبصر للآثار الخطيرة لإهدار قرينة البراءة، والتداخل في أحكام القضاء.

النخبة هي صفوة الأمة، عليها معقد الرجاء في تصحيح الأخطاء وضرب المثل والقدوة.

زر الذهاب إلى الأعلى