
الخصومة الجنائية المتشابكة
مقال بقلم/ أشرف نجيب الدريني
هل يمكن أن تُبنى عدالة جنائية حقيقية على إجراءات تُعالج النتائج وتغفل الجذور؟ وهل يكفي استحداث بدائل للحبس الاحتياطي لإقناعنا بأن الحرية قد أصبحت في مأمن، بينما يظل القرار الأخطر المتصل بها وليد المسار ذاته الذي نشأ فيه الاتهام؟ وأين يقف مبدأ الفصل بين السلطات حين تُدار الدعوى الجنائية منذ لحظتها الأولى بعقل واحد، ورؤية واحدة، ومن زاوية خصومة لا حياد فيها؟ ثم، أي ثقة يُطلب من الإنسان في منظومة لا يمر فيها المساس بحريته عبر قاضٍ مستقل، بل عبر سلطة تمارس الاتهام وتباشر التحقيق وتقرر الإحالة في آن واحد؟ هذه الأسئلة لا تُطرح بدافع الجدل، بل باعتبارها (مدخلًا ضروريًا) لفهم جوهر الخلل الإجرائي، بعيدًا عن المعالجات الشكلية أو الحلول المؤقتة.
لقد أدرك المشرع المصري، في مرحلة سابقة على تعديل عام 1981، أن الدعوى الجنائية بما تحمله من ثقل إنساني وأثر اجتماعي لا يجوز أن تُدار في خط واحد متصل، فكان قاضي التحقيق حاضرًا بوصفه الضامن الأول للحياد، وكانت غرفة الإحالة (مستشار الإحالة) تمثل لحظة التروي القضائي التي تفصل بين مجرد الشبهة وقرار تقديم الإنسان إلى المحاكمة. لم يكن هذا التنظيم تعقيدًا للإجراءات ولا إبطاءً للعدالة، بل كان تعبيرًا عن فلسفة ترى أن البحث عن الحقيقة يختلف جوهريًا عن توجيه الاتهام، وأن العدالة لا تبدأ من منصة الحكم، بل من اللحظة التي يُمس فيها كيان الفرد وسمعته وحريته. ثم جاء تعديل 1981 ليجمع السلطات الإجرائية في يد النيابة العامة، فانتقل الإشكال من نطاق الاختيار التشريعي إلى مسألة بنيوية تمس (توازن العدالة) ذاتها، لا لقصور في نزاهة القائمين على الاتهام، وإنما لطبيعة الدور ووظيفته.
ومنذ تلك اللحظة، لم يعد النقاش الحقيقي يدور حول مدى قسوة الحبس الاحتياطي أو طول مدته، بل حول الجهة التي تقرره والعقلية التي تحكمه. فالحبس الاحتياطي، في ذاته، ليس شرًا مطلقًا، لكنه يصبح خطرًا حين يُنتزع من سياقه القضائي المحايد ويُدرج ضمن أدوات الخصومة. وهنا تكشف التجربة المقارنة، ولا سيما النموذج الفرنسي، عن درس بالغ الدلالة؛ إذ لم يُواجَه الإفراط في الحبس بتقليصه تشريعيًا فحسب، بل بإعادة توزيع السلطة ذاتها، من خلال إسناد قرار المساس بالحرية إلى قاضٍ مستقل، هو قاضي الحريات والحبس، الذي لا (يحقق ولا يتهم)، وإنما يزن الضرورة بميزان مجرد، ويُخضع الإجراء لتسبيب حقيقي لا افتراضي.
ولو أُعيد النظر في الحبس الاحتياطي من هذا المنظور، لتبيّن أن وجود قاضٍ مختص بالحرية كان ليكون أجدى من البدء في استحداث (بدائل إجرائية) متفرقة. فالأصل العادل، حين يُبنى على حياد مؤسسي، يقلل بطبيعته من الحاجة إلى المسكنات التشريعية. إن قاضي التحقيق، وغرفة الإحالة، وقاضي الحريات، ليسوا آليات منفصلة، بل تجليات لرؤية واحدة ترى أن العدالة الجنائية لا تُدار بعقل أحادي، وأن المساس بالحرية يجب أن يمر عبر أكثر من ضمير قضائي. فغرفة الإحالة كانت لحظة العقل قبل الإحالة، وقاضي التحقيق كان ضمير البحث عن الحقيقة، وقاضي الحريات هو الحارس الأخير على باب الحرية. وبغياب هذه الحلقات، يصبح الحديث عن (بدائل الحبس) حديثًا عن التخفيف لا عن الوقاية، وعن معالجة العرض لا عن المرض.
الإصلاح الإجرائي الحقيقي لا يُقاس بعدد النصوص المستحدثة، بل بمدى احترامه لفكرة الفصل بين الوظائف داخل الدعوى الجنائية. فحين يُفصل من يحقق عمن يتهم، وحين يُسند قرار الحبس إلى قاضٍ لا يرى في الإجراء امتدادًا للاتهام، تستعيد العدالة توازنها الطبيعي، وتستعيد الحرية موقعها كأصل لا كاستثناء. عندئذ فقط يصبح الإجراء أكثر إنسانية دون أن يفقد فعاليته، وأكثر صرامة دون أن يكون قاسيًا، وأكثر صدقًا مع ذاته ومع من يخضع له. فجوهر العدالة الجنائية ليس في سرعة المسار ولا في تنوع البدائل، وإنما في أن يشعر الإنسان، منذ اللحظة الأولى، بأن حريته لم تكن محل افتراض، وأن الحقيقة قد بُحثت بضمير قاضٍ لا بعين خصم. والله من وراء القصد.