
الحياد في الخصومة الجنائية
بقلم د. أشرف نجيب الدريني
ليست العدالة الجنائية مجرد منظومة قواعد تُطبق، ولا إجراءات تُستوفى بحرفية، بقدر ما هي علاقة دقيقة بين السلطة والإنسان، قائمة على الثقة. هذه الثقة لا تُفرض بالنصوص، ولا تُنتزع بالقوة، بل تبنى حين يشعر الفرد أن من يواجهه بالدعوى العمومية يتعامل مع حريته من موقع واضح في حدود وظيفته، وأن الأدوار لا تختلط، وأن الأسئلة عن الحياد والعدل ليست مجرد صيغ شكلية، بل جوهر ما يلمسه الإنسان في تجربته مع النظام الجنائي.
الرد، في جوهره، ليس إجراءً عدائيًا، ولا طعنًا في الأفراد، بل آلية تشريعية لحماية الحياد. لذلك، يُرد القاضي لا لأنه مشكوك في نزاهته، بل لأن موقعه لا يحتمل الشك أصلًا. القاضي لا يُنتظر منه الصدق فقط، بل أن يبدو كذلك في عيون الخصوم والمجتمع. فمجرد الإحساس بأنه قد يكون منحازًا ولو (في اللاوعي) يكفي لزعزعة ثقة الإنسان في الحكم، حتى وإن كان الحكم سليم المنطق.
وبنفس المنطق، يُرد الخبير. فالخبير لا يُمارِس سلطة الفصل، لكنه يمتلك قدرة تأثير قوية على قناعة القاضي بمنطق فني تقني. يُطلب منه أن يقدّم رأيًا موضوعيًا محايدًا بعيدًا عن الخصومة. وإذا جاز رد الخبير لحماية نقاء الرأي الفني، فلا يجوز قبول شهادته، لأن الشهادة تفترض الإدراك الشخصي، بينما الرأي الفني يقف عند أعتاب الحياد والموضوعية التامة. تحويل الخبير إلى شاهد، في هذه الحالة، يخل بوظيفته ويضعف مبرر الرد الذي يُقرّ به القانون.
أما عضو النيابة العامة، فالنظام لا يعرف في مواجهته إجراء الرد، ليس لأنه بلا شبهة، بل لأنه ليس محايدًا أصلاً. فهو خصم باسم المجتمع، يمارس الدعوى، ويبذل جهده لإثبات الاتهام عندما ترى الأدلة قائمة. ومن ثمّ، فإن الرد يفقد معناه في مواجهته، لأنه لا يُشرع لمواجهة الخصومة، بل لمواجهة الانحراف عن الحياد حيث يُفترض وجوده. ولهذا أيضًا تُمنع شهادة عضو النيابة في الدعوى التي يباشرها، لأن الجمع بين صفة الخصم وصفة الشاهد يُفقد الفصل بين من يخاصم ومن يُنشئ الدليل، ويُخلّ بمبدأ تكافؤ السلاح.
ويبقى السؤال الأكثر إلحاحًا عند مأمور الضبط القضائي، الذي يُقبل (كشاهد إثبات) رغم أن القانون لا يجيز ردّه. صحيح أن الضابط ليس طرفًا بالمعنى الفني للخصومة، وأن شهادته تخضع لتقدير المحكمة كسائر الشهادات، غير أن موقعه الوظيفي يجعل منه جزءًا من منظومة الاتهام الواقعية: فهو يجمع الأدلة، يحرر المحاضر، ويؤسس الرواية الأولية للدعوى، ثم يُستدعى ليشهد عليها. هذا الجمع بين وظيفتي الضبط وجمع الأدلة من جهة، والشهادة من جهة أخرى، يجعل تقييم دوره من منظور حياد إجرائي موضوعًا معقدًا، لا يخلو من تساؤل مشروع. فإذا كان النظام يمنع عضو النيابة من أداء الشهادة حمايةً للفصل بين الخصومة والدليل، فإن ذات الاعتبار يفرض التضييق الصارم في قبول شهادة الضابط، متى كانت امتدادًا لدوره الوظيفي، لا ثمرة نموذج إدراك شخصي مجرد.
يمكن القول إذن إن الرد والشهادة ليسا مجرد إجراءات متفرقة، بل وجوه لفلسفة واحدة: فلسفة الحياد والعدالة. فمن يُرد لا يشهد، ومن يُسمح له بالشهادة يجب أن يكون منصفًا، بعيدًا عن مواقع النفوذ أو الخصومة. وحين تختلط هذه الأدوار، لا ينهار النص القانوني، لكن يضعف الإحساس العام للعدالة في وعي المجتمع، حتى لو سلم الشكل القانوني من أي خلل.
وقد أظهر النظر المقارن في نظم العدالة الجنائية عبر العالم أن هذه المسألة ليست محصورة في نظام بعينه. في بعض الأنظمة، يُنظر إلى محاضر الضبط كجزء من الملف التحقيقي العام الذي يقيّمه القاضي ضمن مجموعة دلائل متكاملة، دون أن تتحول تلقائيًا إلى (شهادة) شفوية مساوية لشاهد مباشر؛ وفي نظم أخرى، يتم التعامل مع الشرطة كشهود محتملين، لكن تحت شروط (المواجهة والاستجواب) المباشر، حفاظًا على حقوق الدفاع والعدالة. وهذه المقاربات المتباينة تؤكد أن القاعدة الجوهرية هي الحفاظ على “حياد” من يصدر عنه الدليل أو يُستند إلى شهادته، لا مجرد تسميتهم بوظيفة رسمية.
وفي النهاية، لا يكون جوهر الإشكال في جواز الرد أو منع الشهادة، ولا في قبول قول هذا ورفض قول ذاك، بل في “الصورة الكلية” التي يقدمها النظام الجنائي عن نفسه في ذهن الإنسان. العدالة لا تُقاس فقط بما تملكه من سلطات، بل بما تفرضه على نفسها من قيود. وكلما اتضحت الحدود بين من يخاصم، ومن يجمع الدليل، ومن يشهد، ومن يفصل، ازداد الإحساس بأن الحرية تُدار بعقل لا بغلبة، وأن القوانين ليست أدوات قوة، بل أدوات حماية.
العدالة الجنائية الحقة لا ترتعب من النقد الهادئ، لأنها تعلم أن قوتها لا تكمن في كثرة الأدلة، بل في نقاء مصادرها، ولا في صرامة الإجراءات، بل في وضوح مواقع من يباشرونها. فعندما يُرد من يجب ردّه، ويُمنع من الشهادة من لا يصلح لها، ويُراقب عمل الضبط والنيابة برقابة واعية، يصبح الحكم- حتى لو بدا قاسياً- مفهومًا، ومقبولًا، وقابلًا لأن يُصدّق. وهنا فقط، لا تكون العدالة مجرد حكم يُنفذ، بل تجربة إنسانية يشعر فيها كل فرد أن القانون، وهو يُقيّد حريته، لم يتخلَّ عن إنسانيته، وأن الرد والشهادة ليسا آليات فنية فقط، بل نبض حيّ للعدالة في جوهرها. والله من وراء القصد.