الحرب الأوكرانية والسجون المفتوحة

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

في الرابع والعشرين من شهر فبراير 2022م، شهد العالم بداية نشوب «الحرب الأوكرانية» كما تطلق عليها وسائل الإعلام الفرنسية والألمانية، أو «الحرب الروسية الأوكرانية» كما تطلق عليها وسائل الإعلام العربية، أو «العملية العسكرية الخاصة» كما تطلق عليها القيادة السياسية الروسية، أو «حرب بوتين» كما يحب أن يطلق عليها المسؤولون الأمريكان والبريطانيون ووسائل الإعلام في هاتين الدولتين. والمتابع لهذه الحرب، يمكن أن يلحظ بوضوح أن أحد الجوانب المهمة لها هو استعانة كلا الطرفين المتحاربين بالسجناء في العمليات الحربية والقتالية. والواقع أن هذا الإجراء لم يتأخر طويلاً بعد نشوب الحرب، حيث بدأ الحديث عنه بعد أربعة أيام فقط على بداية الحرب، الأمر الذي يبدو جلياً من خلال العرض التالي:

 

استعانة أوكرانيا بالسجناء في أعمال الدفاع عن البلاد

فيما يتعلق بالجانب الأوكراني، وفي يوم الاثنين الموافق الثامن والعشرين من فبراير 2022م، كشفت المدعية العامة في أوكرانيا، «إيرينا فينيديكتوفا»، عن إجراءات خاصة بإطلاق سراح بعض السجناء، للمشاركة في قتال القوات الروسية التي تغزو البلاد. وجاء إعلان فينيديكتوفا بعدما كشف الرئيس الأوكراني، «فولوديمير زيلينسكي»، عن قرار السماح بإطلاق سراح هذه الفئة من السجناء، للمشاركة في أعمال الدفاع عن البلاد. وقالت المسؤولة الأوكرانية، في فيديو بثته عبر صفحتها الشخصية على «فيسبوك»، إن إطلاق سراح بعض السجناء «ليس عملاً جماهيرياً» لكنه «خطوة متوازنة وهادفة للغاية»، معتبرة الدفاع عن الوطن «حقا لهم أيضاً». وأشارت فينيديكتوفا إلى أن «من المفرج عنهم من يتمتع بخبرة قتالية كبيرة في الدفاع عن منطقتي دونيتسك ولوجانسك إبان النزاع المسلح» الذي بدأ قبل سنوات، لافتة إلى أن «جميعهم معارضون لروسيا، وأحدهم مؤلف أغنية شهيرة ضد المعتدين». وأكدت أنه «تم تقييم جميع المخاطر بشكل فردي لكل منهم، وتحديد آليات السيطرة عليها». ولم تحدد المدعية العامة الأوكرانية المخاطر المشار إليها، كما لم تحدد كيفية تقييم هذه المخاطر وآلية السيطرة عليها.

 

وقالت المدعية العامة: «يوجد في أوكرانيا ما يكفي من الجنود، وحوالي 100 ألف مواطن تم حشدهم خلال يومين نصفهم من الاحتياطيين، ومع ذلك فإن الدفاع عن الوطن ليس واجباً فحسب، بل حق أيضاً. وعندما يتعلق الأمر بالحفاظ على الدولة ومستقبلها، فإننا نعتقد أن أولئك يريدون الدفاع عن وطنهم ويستحقون هذه الفرصة». وأضافت: «مكتب المدعي العام مقتنع بأن المهمة الرئيسية لنظام السجون ليست العقوبة، بل الإصلاح. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج الجيش الأوكراني إلى دعم مادي، ولا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي عندما تكون الدولة في خطر». وفسرت ذلك بقولها: «يقرر المدعون العامون على جميع المستويات وفي أنحاء البلاد رفع الاعتقالات ونقل المعدات والأسلحة وكذلك الوقود المضبوط أثناء التحقيق في الإجراءات الجنائية (الأحراز)، لصالح احتياجات القوات المسلحة الأوكرانية والحرس الوطني»، مشيرة إلى أنه «تم بالفعل نقل أكثر من 10 آلاف طن من الوقود والعربات المدرعة والأسلحة».

 

استعانة روسيا بالسجناء في حربها ضد أوكرانيا

لم تقتصر الاستعانة بالسجناء على أوكرانيا، وإنما امتدت إلى الطرف الآخر في الحرب، وهو جمهورية روسيا الاتحادية. ففي شهر سبتمبر 2022م، ظهرت تقارير عن قيام مجموعة فاجنر للمرتزقة بتجنيد سجناء للقتال في أوكرانيا مقابل تخفيف عقوباتهم. وطبقاً للقانون الروسي، لا يسمح المشرع بتخفيف عقوبة السجن مقابل أداء الخدمة العسكرية، سواء في صفوف الجيش أو في صفوف المرتزقة. ومع ذلك، تم تصوير رئيس مجموعة فاجنر، «يفجيني بريجوزين»، وهو يقول للسجناء إن «لا أحد سيعود وراء القضبان» إذا خدموا مع مجموعته. وبشكل أكثر تحديداً، ظهر بريجوجين في فيديو مسرب، مخاطباً سجناء، قائلاً إنهم سينالون الحرية إذا هم خدموا مدة ستة أشهر بين صفوف مجموعة فاجنر. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن مجموعة فاجنر افتتحت يوم الجمعة الموافق الرابع من نوفمبر 2022م أول مقر رسمي لها في روسيا، في مدينة سان بطرسبرج.

 

وفي يوم السبت الموافق الخامس من نوفمبر 2022م، أصدر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قانوناً بتعديل بعض أحكام القانون الخاص باستدعاء جنود الاحتياط، ليشمل المدانين بجرائم خطيرة الذين غادروا السجن مؤخراً. وبمقتضى هذا التعديل، يواجه القتلة وتجار المخدرات المدانون الذين غادروا سجنهم مؤخراً أوامر استدعاء للجيش للقتال في أوكرانيا. وفي المقابل، لا يزال السجناء السابقون المدانون بجرائم جنسية ضد الأطفال أو الإرهاب مستبعدين من الخدمة.

 

ويبدو أن استعانة روسيا بالسجناء في العمليات الحربية والقتالية قد ضاعفت المخاوف لدى الدول الغربية من لجوء هؤلاء السجناء إلى ارتكاب جرائم أو انتهاكات لأحكام القانون الدولي الإنساني، منظوراً في ذلك إلى الماضي الإجرامي لكل واحد منهم وإلى عدم خضوعهم للبرنامج التأهيلي اللازم أو عدم اكتمال مدة هذا البرنامج. ولعل ذلك يبدو جلياً من مطالعة التقارير والأخبار المنشورة في وسائل الإعلام الأمريكية والأوربية عن استعانة روسيا بالمسجونين في حربها ضد أوكرانيا. وربما يكون ذلك من قبيل «الحرب الإعلامية» التي شهدت ازدهاراً واضحاً في خلال هذه الحرب، كما في غيرها من الحروب التي تجري في عالم اليوم. إذ تشير التقارير والأخبار المنشورة في وسائل الإعلام الغربية عن الحرب الأوكرانية إلى وجود اتهامات للجنود الروس بارتكاب جرائم أثناء غزو أوكرانيا. وغالباً من تأتي هذه الاتهامات مقرونة بالحديث عن استعانة روسيا بالسجناء في حربها. فعلى سبيل المثال، وفي خبر منشور على موقع البي بي سي يوم الخامس من نوفمبر 2022م، تذكر الوسيلة الإعلامية الشهيرة أن لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن أوكرانيا، التي شكلتها الأمم المتحدة، في شهر سبتمبر 2022م، قالت إن «القوات الروسية ارتكبت جرائم حرب، بما في ذلك إعدام المدنيين دون محاكمات وأعمال العنف الجنسي من قبل بعض الجنود. وتقول أوكرانيا إنها سجلت عشرات الآلاف من جرائم الحرب المحتملة على يد القوات الروسية. وتنفي روسيا تعمد مهاجمة المدنيين وتتهم القوات الأوكرانية باستهداف المدنيين في المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون في البلاد بالمدفعية، وهو ما تنفيه أوكرانيا. وقالت لجنة الأمم المتحدة إنها وجدت حالتين لسوء معاملة جنود روسيا الاتحادية على أيدي جنود أوكرانيين، لكن عدد الادعاءات بارتكاب جرائم حرب ضد روسيا كان أكبر بكثير بشكل واضح».

 

وفيما يتعلق بأسباب ومبررات لجوء روسيا للاستعانة بالسجناء في الحرب، قالت وزارة الدفاع البريطانية إن تجنيد السجناء يشير إلى نقص حاد في المقاتلين المشاة تعانيه روسيا. وفي شهر أغسطس 2022م، قال مسؤولون في وزارة الدفاع الأمريكية إن ما يناهز ثمانين ألفاً من القوات الروسية لقوا مصرعهم أو أصيبوا بجروح منذ بداية الحرب في شهر فبراير من العام ذاته. وتفيد تقارير بلجوء موسكو إلى مجموعة فاجنر لسدّ الثغرات التي خلّفتها الضربات الأوكرانية الثقيلة. كذلك، وفي الاتجاه ذاته، ولتعويض الخسائر البشرية في صفوف القوات الروسية، تتحدث وسائل الإعلام الأوربية والأمريكية عن تقارير متداولة منذ فترة عن محاولات روسيا تعزيز قواتها العسكرية عبر تجنيد أشخاص مُدانين بأحكام قضائية. أما على الجانب الروسي، فيبدو أن السبب وراء الاستعانة بالسجناء في العمليات الحربية هو عدم الاضطرار إلى تجنيد الشباب الروسي، وبحيث يتم الاعتماد بشكل أساسي على مقاتلي جماعة فاجنر فضلاً عن تجنيد السجناء المحكوم عليهم والموجودين فعلاً في السجون الروسية، وبحيث يتم النظر إلى الخدمة العسكرية كبديل للعقوبة السالبة للحرية. إذ دافع رئيس مجموعة فاجنر الروسية، يفجيني بريجوجين، عن فكرة إرسال سجناء للقتال في أوكرانيا، وذلك بعد ظهوره في فيديو مسرب بينما يحاول تجنيد نزلاء أحد السجون. وقال بريجوجين إن على هؤلاء الذين لا يرغبون في إرسال المدانين إلى القتال، أن يرسلوا أبناءهم بدلاً من ذلك. وفي موضع آخر، بعث بريجوجين رسالة إلى هؤلاء الذين لا يرغبون في الاستعانة بمرتزقة أو سجناء في القتال، قائلاً: «إمّا شركات عسكرية خاصة وسجناء، أو أبناؤكم – عليكم أن تقرروا بأنفسكم». وفي بيان نُشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد تداول فيديو مسرّب له على نطاق واسع، مخاطباً مجموعة من السجناء، قال بريجوجين إنه لو كان سجينا لراوده حلم بالانضمام لصفوف مجموعة فاجنر من أجل أن «أسدد ديني لبلادي».

 

ومع ذلك، يبقى أن الاستعانة بالسجناء في الحرب قد تثير بعض المخاوف من هروبهم. ولذلك، وفي الفيديو المسرب المنسوب له، مخاطباً مجموعة من السجناء، حذّر رئيس مجموعة فاجنر المجندين المحتملين من مغبة الهروب من الخدمة، قائلاً: «إذا وصلت إلى أوكرانيا وقرّرت أنك لست معنياً بالأمر، فستواجه الإعدام ميدانياً».

 

ويبدو أن الاستعانة بالسجناء في القتال تتوقف على اختيارهم وإرادتهم، دونما إجبار لهم على ذلك. ففي مقطع الفيديو المسرّب، ظهر مؤسس مجموعة فاجنر الروسية الغامضة، وهو يحاول تجنيد سجناء للقتال في أوكرانيا. وفي هذا الفيديو، يمكن مشاهدة يفجيني بريجوجين بينما يخاطب مجموعة كبيرة من السجناء، قائلاً لهم إن الفترات المحكوم بها عليهم يمكن تخفيفها في مقابل الانضمام للخدمة في صفوف مجموعة فاجنر. وبحسب بعض وسائل الإعلام الغربية، يبدو أن الفيديو المسرّب تم تصويره في ساحة تريّض بأحد السجون. وليس معلوماً مَن قام بتصويره، ولا متى فعل ذلك، أو كيف تمكّن من إذاعته. ومع ذلك، استطاعت وسائل التحديد الموقع الجغرافي لمكان تصوير الفيديو، وتوصلت إلى أنه السجن المركزي في جمهورية ماري إل (إحدى جمهوريات الاتحاد الفيدرالي الروسي). وتوصّلت وسائل الإعلام الغربية إلى هذه النتيجة عبر إجراء بحث عكسي لصورة كنيسة تظهر في الخلفية في الفيديو. كما تم التوصل إلى النتيجة ذاتها عبر الاستعانة ببرمجيات للتحقق من صورة المتحدث في الفيديو، والتي أظهرت أنه رئيس مجموعة فاجنر، يفجيني بريجوجين. وفي شهر أغسطس 2022م، تحدثت وسائل إعلام روسية مستقلة إلى نزلاء في سجون بمواقع مختلفة من روسيا، وقال هؤلاء إن بريجوجين قام شخصياً بزيارة لمكان نزولهم من أجل تجنيد سجناء للقتال في أوكرانيا.

 

ولضمان أن تكون موافقة السجناء صادرة عن إرادة حرة واعية، الأمر الذي يقلل من احتمالات هروبهم من ميادين القتال، وفي وسط ما بدا أنه ساحة تريّض في السجن، تحدث بريجوجين إلى النزلاء الذين كانوا يرتدون سترات رياضية سوداء، وألمح إلى ما تواجهه روسيا من صعوبات في حربها في أوكرانيا. وفي ذلك، يقول رئيس مجموعة فاجنر إن «هذه حرب صعبة – أصعب حتى من حرب الشيشان ومن حروب أخرى».

 

وفيما يتعلق بالشروط الواجب توافرها في هؤلاء السجناء، حتى يمكن الاستعانة بهم في القتال، والالتزامات والواجبات المفروضة عليهم، أبلغ بريجوجين مستمعيه من السجناء بقواعد وأحكام مجموعة فاجنر التي تحظر تناول الكحول وتعاطي المخدرات و«الاتصال الجنسي بالنساء المحليات وبالرجال وبالحيوانات والنباتات – وبأي شيء». كذلك، قال بريجوجين للنزلاء إن المنتسبين لمجموعة فاجنر يجب أن يكونوا «في حالة صحية وهيئة جسدية جيّدة»، قبل أن يكشف عن أن الأربعين الأوائل من المنتسبين لمجموعة فاجنر من أحد سجون سانت بطرسبورغ تمّ نشرهم في أثناء هجوم على محطة فوهليهيرسكا للطاقة في شرق أوكرانيا في يونيو 2022م. وفي الفيديو، يمضي بريجوجين، قائلاً إن السجناء اقتحموا خنادق الأوكرانيين وهاجموا قواتهم بالأسلحة البيضاء. ويروي أن ثلاثة من الرجال لقوا مصرعهم، وكان بينهم شخص في الـثانية والخمسين من عمره كان قد قضى أكثر من ثلاثين عاما في السجن. وفي أواخر الفيديو، يقول بريجوجين لمستمعيه من السجناء إنهم ينبغي أن يقتلوا أنفسهم بقنابل يدوية حال تعرّضوا لخطر الوقوع في الأسْر. ولعل مما يثير التساؤل في هذا الصدد هو السماح لسجين يبلغ من العمر اثنين وخمسين عاماً بالمشاركة في العمليات الحربية، لاسيما وأن هذا الشخص أمضى ثلاثين سنة خلف الجدران، وبحيث لقى مصرعه في القتال. ومما يثير الدهشة والاستغراب أيضاً أن هذا الشخص أمضى ثلاثين سنة في السجن. ويعني ذلك أن هذا الشخص قد دخل السجن في سن الثانية والعشرين، الأمر الذي يصعب معه تصور وجود خبرة عسكرية سابقة له قبل أن يعيش وراء أسوار المؤسسة العقابية.

 

وهكذا، ومن خلال العرض السابق، يبدو أن العالم سيشهد في المستقبل استخداماً أكبر للسجناء في الحروب، وبعد أن الكلام في السابق عن «سجناء الحروب»، غدا متصوراً الحديث عن «حروب السجناء».

 

زر الذهاب إلى الأعلى