الحاضر وحفائر الماضي !
الحاضر وحفائر الماضي !
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 8/5/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية
يستطيع المتأمل، أن يلاحظ بلا كبير عناء، أن غالبية ما معنا حتى اليوم من المعارف أو من العادات، يشكو القـدم.. وللقـدم فينا وفي آبائنا بل وفي أبنائنا آثار مئات من القرون تناقلتها الأجيال العديدة بعديد من التصورات والصيغ والإضافة والحذف.. ويبدو أن رسوبها هذا العميق في وعى وعواطف البشر، يكاد يتأبى على التغيير ويستحيل على التقويم والتصحيح !
لقد باتت هذه الخلال ـ في خامة وتراث البشر ومألوفهم وأعرافهم وعقائدهم ومصدقاتهـم ـ أصابـعها ليست قليلة، ولم يتهيأ الإنسان لتقويمها وتصحيحها ـــ إلاّ بعلاج جزئي نسبى في المكان والزمان.. ومن هنا كان تاريخ الآدميين مليئاً بالعثرات إلى اليوم !
وبرغم ما بين البعض والبعض من تشابه في المصدقات والعادات والأعراف، إلاّ أنه نمت فروق عاطفية وفكرية عميقة جداً مازالت عصية على التسوية والعلاج، وما زالت من مصادر الخصومة والعداوة القائمة بين الأفراد والجماعات.. وإلى الآن لم ينجح في سيادة عالم البشر عاطفياً وعقليا ـــــ أي من أنماط المعتقدات والمصدقات والأعـراف بحيث يشكل وحـده نمطاً لا تختلف فيه جماعة عن جماعة..
فغالبية ما معنا حتى اليوم مازال يعاني من القدم ومن آثار العزلة ومن التعصب لماضي الجماعة وإقليمها باعتبارهما الأساسين الرئيسيين لبقاء الجماعة اقتصاديا واجتماعيا واعية لذاتها حافظة لتماسكها ووحدتها.. ذلك أن البوتقة التي انصهرت فيها مصدقات الجماعة وأفكارها على الجملة هي حصيلة ما هو سائد فيها بشأن ماضيها وحاضرها من واقع وافتراض، ومن حقيقة وخيال، ومن أمل وخوف !
يستطيع المتأمل أن يدرك من هذا الحكم أنه لم يخرج عن كونه اعتيادًا مزمنًا متوارثًا على التسليم بالخصوصية والانفراد والانعزال لكل جماعة في بقعة الأرض التي عاشت عليها.
ويبدو أن شيئًا جديدًا قد طرأ في أيامنا على دنيانا.. إذ بتنا نكاد نلمس ميل سكان عالمنا ـــ إلى تغيير جذري من الانكماش القديم والتحوصل إلى الانتشار، ومن التوجس والحذر إلى الجرأة والانطلاق.. وصرنا نعتاد على رؤية الأفواج من أهل الشرق الأقصى يقيمون في أقصى الغرب من العالم، وعلى رؤية السود والصفر وأبناء المناطق الحارة والصحاري يتركون مواطنهم القديمة إلى أقاليم البيض ـــ يؤثرون على أقاليمهم الأصلية سكنى البلاد الباردة حيث الثلوج والصقيع. ولم تعد الأجواء والمسافات والتضاريس والوهاد والصحاري وشدة الحر والبرد وخوض البحار والمحيطات وتعقيد التكوينات والتراكيب والمجهريات وأنواع الطاقة وصورها ـ.. لم تعد تنفر أو ترهب الآدمي أو تصده أياً كان لونه أو أصل موطنه أو تلزمه بالبقاء في مكان ما أو القنوع بما يجود به عليه موطن، أو النظر نظرة المرتاع الخائف المتوجس إذا فكر في الانتقال من أقصى الأرض إلى أقصاها، أو في استعمال الطائرة بدلاً من الدابة للوصول إلى ما يريد ويقصد !
هـذه الجـرأة العامة ـــ لا نظن أنها قابلة للانتكاس والانكماش.. فالآدميون الآن قد خطوا بالفعل خطى لا إمكانية ولا مكان للرجوع فيها أو الانسحاب منها.. ذلك أن البشـر وهم لا يشعرون قد تمردوا بالفعل على معنى الجماعة وفكرة الإقليم وباتوا في محيط العالمية وقبضة الاقتصاد العالمي التي قد تدمر الجميع وتخنق الكل. لأنها قبضة انفعالية دون أن نشعر..
وتلك الخطوات نحو العالمية التي خطتها الإنسانية، هامة وخطيرة، تستوجب من عموم الآدميين عملاً وفكرًا نحو المستقبل بسعة العالم، وتخلصهم في الوقت نفسه من الاستغراق المألوف في ماضي كل جماعة وظروف إقليمها المعهودة ــــ الاستغراق السلبى في الماضي عبث وقعود يشبه الكساح وإضاعة للأعمار والفرص الثمينة لتقدم البشرية.