الجغرافيا في القانون الجنائي

مقال بقلم/ الدكتور أشرف نجيب الدريني

الجغرافيا ليست مجرد عنصر محايد في منظومة القانون الجنائي، بل هي عنصر محوري يؤثر في جميع مراحل العدالة الجنائية. إذ يمكن أن تحدد الجغرافيا طبيعة الجريمة ومدى خطورتها، بل وقد تساهم في تفسير سلوك الجاني، وتحليل دوافعه، وحتى في اختيار الأدوات المستخدمة في الجريمة. فهل يمكن للجغرافيا أن تكون سببًا لتخفيف المسئولية الجنائية؟ وهل تبرر طبيعة المكان وقوع بعض الجرائم؟ وما هو أثر الجغرافيا على سير التحقيقات، وجمع الأدلة، وتحديد العقوبات؟ هذه التساؤلات تفتح الباب أمام فهم أعمق لتأثير الجغرافيا في النظام الجنائي، ومدى تعقيد العلاقة بينها وبين تحقيق العدالة.

حيث تسهم بشكل مباشر في كشف ملابسات الجريمة، وتعقب الجناة، وربط الأدلة بمسرح الجريمة. فالجريمة ليست مجرد فعل منفصل، بل هي حدث مكاني وزماني تتأثر بعوامل جغرافية متعددة، تجعل من الضروري أن يأخذ المحققون بعين الاعتبار الموقع الجغرافي للجريمة، والمسارات المحتملة للجناة، والعوامل البيئية المحيطة. فاستخدام الأدوات الجغرافية في التحقيقات لم يعد مجرد اجتهاد بل أصبح جزءًا أصيلًا من علم الأدلة الجنائية، حيث يساعد في تقديم تصور متكامل عن طبيعة الجريمة، والروابط الممكنة بين الأدلة والمتهمين.

بالإضافة إلى أن أحد أهم التطبيقات الجغرافية في التحقيقات الجنائية هو استخدام نظم المعلومات الجغرافية(GIS)، التي تُتيح لسلطة التحقيق تحليل مواقع الجرائم، وتعقب الأنماط الجغرافية لمرتكبيها. من خلال هذه التقنية، يمكن تحليل سلسلة من الجرائم التي تقع ضمن نطاق جغرافي محدد، وربطها بمشتبه به أو بمجموعة من الجناة، وهو ما يُعرف بـ”التنميط الجغرافي للمجرم”. فعلى سبيل المثال، في قضايا القتل المتسلسل، يتم رسم خريطة تحليلية لمواقع الجرائم لمعرفة ما إذا كان الجاني يتحرك ضمن منطقة معينة أو يختار ضحاياه وفق نمط مكاني محدد، مما يساعد في تضييق نطاق البحث وتحديد الدائرة الجغرافية التي يحتمل أن يتحرك فيها.

في قضايا الاختطاف، يمكن تحليل المواقع الجغرافية التي تم فيها الإبلاغ عن حالات الاختفاء وربطها بتحركات المشتبه بهم، مما قد يكشف عن نقاط التقاء بين أماكن الجريمة ومواقع تواجدهم. ومن ناحية أخرى، تحليل مسرح الجريمة من منظور جغرافي يُتيح فهمًا أكثر تعمقًا للأدلة الجنائية، حيث إن تحديد طبيعة الموقع يساعد في استنتاج سلوك الجاني ودوافعه.

فعندما يُعثر على جثة في منطقة مهجورة، فإن تحليل التضاريس والمسارات المؤدية إلى الموقع قد يساعد في تحديد ما إذا كان الجاني يعرف المكان مسبقًا أم أنه اختاره بشكل عشوائي. كما أن دراسة (البصمات الجغرافية) مثل الطين والرمال والعوالق البيئية على ملابس الضحية أو الجاني قد تكشف عن مكان وقوع الجريمة الحقيقي، خاصة إذا كان الجثمان قد نُقل من موقع إلى آخر لإخفاء معالم الجريمة.

الأدلة الجغرافية تشمل أيضًا (التربة) التي تعد من أقوى الأدلة البيئية التي يمكن استخدامها في ربط المتهمين بمسرح الجريمة. كما أنه تختلف خصائص التربة من منطقة إلى أخرى، سواء في تكوينها الكيميائي –العناصر والمعادن- أو تركيبتها العضوية –المكونات البيولوجية-، مما يجعل من الممكن مقارنة العوالق الترابية الموجودة على ملابس أو أحذية المشتبه به مع التربة في موقع الجريمة. في إحدى القضايا الشهيرة في بريطانيا، تم استخدام تحليل التربة لإثبات أن آثار الطين الموجودة على سيارة المشتبه به كانت متطابقة مع التربة في موقع العثور على الجثة، مما أدى إلى إدانته. هذه الواقعة تعكس كيف يمكن لعنصر بيئي غير مرئي مثل التربة أن يكون دليلًا دامغًا في التحقيقات الجنائية.

إلى جانب ذلك، تُعد حركة الأفراد عنصرًا أساسيًا في (الإثبات الجنائي)، حيث يمكن الاستفادة من بيانات الهواتف المحمولة، وكاميرات المراقبة، ووسائل الدفع الإلكتروني، لتعقب تحركات المشتبه بهم وربطهم بمسرح الجريمة. تحليل بيانات أبراج الاتصال يمكن أن يكشف عن الموقع التقريبي للمتهم خلال فترة وقوع الجريمة، وهو ما تم استخدامه في العديد من القضايا الجنائية لإثبات تواجد المتهمين في مواقع الجريمة أو دحض ادعاءاتهم بعدم وجودهم هناك. في قضايا الجرائم السيبرانية، يتم استخدام بيانات الموقع الجغرافي لعناوين (IP) لتحديد مصدر النشاط الإجرامي، مما يساعد في تتبع المشتبه بهم حتى لو كانوا يستخدمون وسائل إخفاء الهوية الرقمية. في بعض قضايا السرقة المنظمة، أظهرت التحقيقات أن المشتبه بهم استخدموا بطاقات الائتمان الخاصة بهم في محطات وقود قريبة من مواقع الجرائم، مما وفر دليلًا ملموسًا يربطهم بالأحداث قيد التحقيق.

رغم الفوائد الكبيرة التي تقدمها الجغرافيا في التحقيقات الجنائية، فإن هناك العديد من التحديات التي تستدعي التوقف عندها. فإلى أي مدى يمكن الاعتماد على نظم تحديد المواقع (GPS) كدليل قاطع، خاصة مع احتمالية الخطأ أو التلاعب بالبيانات الرقمية؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن بين استخدام بيانات الأفراد الجغرافية دون انتهاك حقوق الخصوصية؟ وهل يمكن أن تؤدي التفسيرات الخاطئة للأدلة الجغرافية إلى إدانة الأبرياء بسبب سوء التحليل أو القصور في فهم العلاقة بين (الموقع والجريمة)؟

نعم، تطور استخدام الجغرافيا في التحقيقات الجنائية يمثل نقطة تحول في أساليب البحث عن الحقيقة وإثبات الجرائم، لكنه في الوقت ذاته يطرح تساؤلات (قانونية وأخلاقية) حول حدود هذا الاستخدام. فالاعتماد على الأدلة الجغرافية في النظام القانوني يجب أن يكون خاضعًا لضوابط صارمة تضمن نزاهة التحقيقات وحقوق المتهمين، وهو ما يضع أمام المشرعين تحديًا حقيقيًا في وضع تشريعات تواكب هذا التطور دون المساس بضمانات العدالة. فإلى أي مدى يستطيع القانون أن يستوعب التطورات الجغرافية دون أن يخل بميزان العدالة الجنائية؟

ومن جانب آخر، المكان الذي تقع فيه الجريمة يؤثر بشكل كبير على تكييف الفعل الإجرامي. ففي المناطق الحضرية، حيث تتوفر بنية تحتية متقدمة وتنوع ثقافي واجتماعي، قد تكون الجرائم ذات طابع اقتصادي أو إلكتروني. بينما في المناطق الريفية، تسود أنماط جرائم مختلفة، مثل جرائم الثأر أو النزاعات الناتجة عن الخلافات الزراعية. مثال على ذلك، جرائم التهريب التي تحدث في المناطق الحدودية بمصر، مثل سيناء أو الصحراء الغربية، حيث يتم استغلال التضاريس الصعبة لارتكاب الجرائم مثل تهريب الأسلحة أو المخدرات. هنا تُظهر الجغرافيا تأثيرها الواضح في تحديد نوع الجريمة وطريقة تنفيذها.

ولا سيما أن عملية جمع الأدلة تتطلب فهمًا دقيقًا لطبيعة المكان الذي وقعت فيه الجريمة. في المناطق الريفية، قد تكون التضاريس الزراعية أو العادات المحلية عائقًا أمام جمع الأدلة، في حين أن الكاميرات المنتشرة في المدن الكبرى تُسهل كثيرًا من عملية التحقيق. على سبيل المثال، في قضية تتعلق بسرقة ماشية بإحدى قرى الصعيد، تُعتبر آثار الأقدام أو المسارات الزراعية أدلة رئيسية تحتاج إلى خبرة خاصة للتعامل معها. وفي المقابل، جرائم السرقة في المدن الكبرى غالبًا ما تعتمد في إثباتها على تسجيلات الكاميرات أو بيانات الهواتف المحمولة، مما يجعل الأدوات المستخدمة في التحقيق تختلف بشكل جذري بِناءً على الجغرافيا.

ومن ناحية أخرى، تلعب الجغرافيا دورًا رئيسيًا في تحديد المنهجية التي تتبعها الجهات المختصة في مرحلة التحقيق الجنائي. المناطق الجبلية أو الصحراوية قد تشكل تحديًا كبيرًا أمام فرق التحقيق للوصول إلى مسرح الجريمة أو متابعة الأدلة. أما في القرى، قد تواجه السلطات تحديات تتعلق بثقافة المجتمع المحلي الذي قد يرفض التعاون بسبب الأعراف الاجتماعية أو الخوف من الانتقام. ضعف البنية التحتية في بعض المناطق النائية يُؤثر أيضًا على سرعة استجابة السلطات الأمنية وقدرتها على جمع الأدلة بشكل فعال.

كما أنه في بعض الأحيان، قد تؤثر الخصوصيات الجغرافية على (نية الفاعل)، وهو ما يتجلى في اختلاف التعامل مع الجرائم التي تُرتكب في المناطق الحضرية مقارنةً بتلك التي تُرتكب في المناطق الريفية. فعلى سبيل المثال، قد يكون القتل الناتج عن شِجار في المدينة مُعاملًا بطريقة مختلفة عما يحدث في القرى، حيث يُمكن أن تلعب العادات والتقاليد دورًا في تشكيل الصورة القانونية للجريمة.

وقد تؤثر الجغرافيا على الأعراف الاجتماعية والثقافية، مما قد يساهم في تفسير أو تبرير بعض الأفعال في المجتمع. ففي القرى أو المناطق الريفية، قد تكون هناك أفعال تُعد في نظر المجتمع أمورًا طبيعية وغير مجرمة، في حين أن نفس الأفعال قد يتم التعامل معها بشدة أكبر في المدن الكبرى حيث يتسم المجتمع بتنوع أكبر في الثقافة والقيم.

ولا يقتصر تأثير الجغرافيا على مرحلة التحقيق وجمع الأدلة، بل يمتد إلى المحاكمة ذاتها. المكان الذي وقعت فيه الجريمة قد يحدد المحكمة المختصة بنظر القضية، ويؤثر على طريقة النظر إليها. فجرائم التحرش في المدن الكبرى، على سبيل المثال، قد تُعامل بصرامة أكبر نظرًا للتغطية الإعلامية والضغط المجتمعي، بينما قد تُواجه نفس الجرائم في المناطق الريفية بتساهل أو محاولات للتسوية داخل نطاق الأسرة أو المجتمع المحلي. هذا الاختلاف يُبرز كيف يمكن أن تؤثر البيئة الجغرافية والاجتماعية في تفسير دوافع الجريمة وطريقة التعامل معها قضائيًا.

كما أن الجغرافيا قد تؤثر على العقوبات المقررة للجريمة. في المناطق التي تعاني من ارتفاع معدلات الجريمة، قد تكون العقوبات أشد ردعًا. بينما في المناطق الريفية، حيث يُراعى السياق الاجتماعي والاقتصادي، قد تكون العقوبات أقل قسوة. مثال على ذلك، قضايا التهريب عبر الحدود قد تواجه عقوبات مشددة نظرًا لتأثيرها الكبير على الأمن القومي، بينما تُعامل جرائم السرقة البسيطة في القرى بتساهل نسبي، خاصة إذا ارتبطت بظروف معيشية قاسية.
أحد أبرز الأمثلة التي تُظهر العلاقة بين الجغرافيا والقانون الجنائي في مصر هو ظاهرة جرائم الثأر في الصعيد. هذه الجرائم، التي تُعتبر نتيجة لدوافع اجتماعية مرتبطة بالثقافة المحلية، تُظهر كيف يمكن للجغرافيا أن تُشكّل طبيعة الجريمة وتؤثر على تعامل القانون معها. فعلى الرغم من أن القتل في قانون العقوبات يُعد جريمة جنائية خطيرة، إلا أن الأعراف الاجتماعية قد تُقلل من حدة العقوبة في بعض الحالات بسبب طبيعة السياق الثقافي.

كما يمكن استخدام الجغرافيا في الوقاية من الجريمة، وتُعتبر مصر دولة ذات تنوع جغرافي وديموغرافي كبير، حيث تتركز الكثافة السكانية في وادي النيل والدلتا، بينما تُشكل الصحاري والمناطق الحدودية مساحات شاسعة قليلة السكان. هذا التنوع الجغرافي يؤثر بشكل مباشر على أنماط الجريمة واستراتيجيات الوقاية منها. لذا، يُعد تحليل الجريمة المكاني أداة أساسية في فهم أنماط الجريمة في مصر. يتم ذلك من خلال جمع البيانات المتعلقة بموقع الجرائم، وتحليلها باستخدام نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، لتحديد “النقاط الساخنة” للجريمة.

ولتوضيح ذلك، بمحافظة القاهرة، تشهد بعض المناطق العشوائية مثل “المقطم” و”دار السلام” ارتفاعًا في معدلات جرائم السرقة والعنف. من خلال تحليل البيانات الجغرافية، يمكن تحديد هذه المناطق وتوجيه الجهود الأمنية نحوها، مثل زيادة الدوريات وتركيب كاميرات المراقبة. تُظهر الدراسة أن الجغرافيا تلعب دورًا محوريًا في الوقاية من الجريمة، من خلال تحليل البيانات المكانية، وتحسين التصميم العمراني، واستخدام التكنولوجيا الحديثة. هنا يجب أن تعتمد استراتيجيات الوقاية من الجريمة على فهم عميق للعوامل الجغرافية والاجتماعية، مع تعزيز التعاون بين الجهات الأمنية والمجتمع المحلي.

وبِناءً على ما سبق، يتضح أن الجغرافيا ليست مجرد سياق مكاني للجريمة، بل هي عامل متغير يُساهم في فهم دوافعها وتكييفها قانونيًا. اختلاف الظروف الجغرافية بين المناطق الحضرية والريفية، وبين الحدود والمدن الكبرى، يُظهر تعقيد العلاقة بين الجغرافيا والقانون الجنائي. ومن الضروري أن تُراعى هذه الفروق عند صياغة القوانين أو تطبيقها لضمان تحقيق عدالة جنائية تراعي التفاوت الجغرافي والاجتماعي، وتحقق التوازن المطلوب بين الردع والإنصاف. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى